إنّ أوّل ما يمكننا ملاحظته في بداية تقديم هذا العلم هو جمعه الضمنيّ بين الحديث النبويّ من ناحية وعلوم أخرى متعدّدة، وخاصّة علم الكلام والفقه وأصول الفقه، بالإضافة إلى اعتماده الكبير على اللغة. ولذلك نجد أنّ المفاهيم والمصطلحات المعتمدة في علم مختلف الحديث، تكاد تكون نفسها المصطلحات المعتمدة في الفقه وأصوله من قبيل العام والخاصّ والمقيّد والمطلق، هذا بالإضافة إلى المنطلقات الكلاميّة الأساسيّة لبروز علم مختلف الحديث؛ فالأمر يتعلّق بداية بالخصومة الفكريّة بين أهل الرأي وأهل الحديث. تحيل هذه الملاحظة الأخيرة على خاصيّة كبرى من خاصيّات هذا العلم، وهي التصاقه الشديد بتاريخ المسلمين السياسي والاجتماعي والديني والفكري، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الفكر الإسلامي، قد كان منذ بدايته منطويا على تيّارين رئيسين في كلّ المجالات: تيّار يعتمد اعتمادا شبه كليّ على النصوص، ويدعو إلى التقيّد بها وعدم الخروج عنها؛ وتيّار ثان ينزع إلى إعمال الرأي، ويحثّ على الاستناد إليه، وهذا ما ولّد ذلك الصراع الفكري الّذي جسّد تنازع أهل الحديث وأهل الرأي. وفيما يتعلّق بالحديث النبوي خصوصا، فإنّه يمكننا اعتبار علم مختلف الحديث ثمرة أساسيّة من ثمرات ذلك التنازع بين الفريقين، ولئن تعدّدت المصنّفات المفردة والعامّة في هذا الصدد، فإنّ كتاب « تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة، يبقى الكتاب الأشهر لا بالنظر إلى ريادته فحسب، بل أيضا لما كان عليه صاحبه من ثقافة متعدّدة المكوّنات، تأخذ من الأدب واللغة والفلسفة والعلوم الدينيّة، هذا بالإضافة إلى أن ابن قتيبة كان في الأصل من أهل الكلام قبل أن يتبنّى مقولات أهل الحديث، ويصبح من أشدّ المدافعين عنها. ولعلّ الناظر في كتاب «تأويل مختلف الحديث»، يمكن أن يقف بعد الاستقراء على الملاحظات المركزيّة التالية الّتي تقف وراء الخطاب:
– الكتاب يمثّل لسان دفاع عن دعائم مهمّة للمنظومة السنيّة العامّة كما تشكّلت في التاريخ، سواء تعلّق الأمر بالعقائد أو بالأحكام الفقهيّة أو بالنظرة إلى الأجيال السابقة، وذلك في مقابل المطاعن الّتي وجّهها أهل الرأي لأهل الحديث وتصوّراتهم، وهي مطاعن مثّلت حرجا حقيقيّا للضمير الديني السنّي الّذي كان يخشى الثغرات الموجودة في منظومته، وهي ثغرات يمكن أن تهدم أحيانا المنظومة برمّتها. ولعلّ ذلك ما جعل ابن قتيبة يقف موقفا دفاعيّا، وينساق وراء دفاعه دون اهتمام كبير بوجاهة الحجج أو مصادرها؛ فالمهمّ بالنسبة إليه هو الردّ على الخصوم، وهذا ما يفسّر غلبة العاطفة الدينيّة على الإقناع العقلي في الكتاب.
– ترتبط الملاحظ الأولى الّتي قدّمناها بملاحظة ثانيّة مهمّة؛ فالانسياق وراء الدفاع يبرّر حدّة الردود الّتي نقف عليها في الكتاب، وهو أمر يكشف إلى حدّ بعيد خطورة الرهانات المعرفيّة والحضاريّة للصراع بين أهل الرأي وأهل الحديث، وقد كان لذلك الانسياق أحيانا أثر سلبيّ، يضاف إلى عدم تقديم الحجّة المقنعة، وهو تقديم حجج يمكن أن يوظّفها خصوم أهل الحديث أنفسهم، من قبيل الأخبار الّتي يمكن أن تكون مدخلا للطعن في الرواة أو في رواية الأحاديث. ولذلك نجد ابن الصلاح في مقدّمته يقول عن كتاب ابن قتيبة: « وكتاب ابن قتيبة في هذا المعنى إن يكن قد أحسن فيه من وجه، فقد أساء في أشياء منه قصر باعه فيها».
– يشكّل كتاب ابن قتيبة مثالا من بين أمثلة أخرى على السيرورة التاريخيّة للفكر الإسلامي في سعيه الحثيث لدرء ما قد يحدث في ذهن القارئ أو المتلقّي من إشكاليّات، حين يطّلع على متون المرويّات، وبالتالي هو سعي لقبول الأخبار رغم ما قد يبدو في متونها من تعارض دون تشكيك في أيّ منها. وهذا السعي إلى إزالة التعارض، هو الّذي دعا إلى اعتماد التأويل سبيلا عند أهل الحديث، حتّى لا تسقط قيمة المرويّات، ويترسّخ بذلك المنزع النقلي في الثقافة الإسلاميّة عموما.
– هذه الملاحظات في مجملها تجعلنا نذهب إلى أنّ كتاب « تأويل مختلف الحديث»، ومن ورائه العلم المندرج فيه برمّته، يندرج ضمن منهج تلفيقيّ أساسا، وهو ما اعترف به المحدّثون أنفسهم الّذين أطلق بعضهم عليه اسم «علم تلفيق الحديث»، وهذا المنهج إذا ما قلّبناه نراه نافيا لدور العقل في قبول الخبر أو ردّه، لذلك فإنّ علم مختلف الحديث هو علم قائم في جوهره على قاعدة تسيّره، وتتلخّص في السعي الدائم وبكلّ الطرق إلى حماية النصّ من كلّ أوجه النقد، لتركيز منظومة مخصوصة من وراء ذلك الدفاع عبر درء تعارض النصوص.
يمكن للناظر في كتاب « تأويل مختلف الحديث» الوقوف على نوعين أساسيّين من درء التعارض بين النصوص؛ النوع الأوّل تمثّله الردود الّتي خصّصها ابن قتيبة لردّ مطاعن القائلين بتعارض عدد من الأحاديث النبويّة مع ما جاء في النصّ القرآني؛ أمّا النوع الثاني، فيتعلّق بنفي التعارض الّذي أكّده أهل الرأي بين الأحاديث فيما بينها. وقبل التعرّض إلى ذلك بتفصيل أوفى عبر أمثلة نسوقها من الكتاب، رأينا إبداء ملاحظة عامّة، تتعلّق بأنّ ابن قتيبة في كامل كتابه لم ينف صحّة ولو حديث واحد، ولكنّه يقرّ بصفة دائمة بصحّة كلّ المرويّات، والملاحظ أنّ الإقرار بالصحّة لم يعتمد مطلقا ما سيتمّ التعارف عليه لاحقا في كتب الحديث وعلومه من نظر في الأسانيد، أو تحديد مصدر الحديث من أنّه مذكور فيما سيعتبَر من الصحاح في المنظومة السنيّة بعد عصره. لقد كانت منهجيّة ابن قتيبة العامّة منطلقة من سعيه إلى التوفيق بين متون الروايات عبر آليّات متعدّدة وحجج مختلفة، تستند إلى اللغة والتأويل ومناسبات ورود النصّ، واعتماد علوم نبعت أصلا في علمي التفسير والأصول، هذا بالإضافة إلى اعتماد حجج نصيّة مختلفة المشارب منها الأصيل ومنها الطارئ، ومنها الدينيّ، ومنها الشعريّ والحكميّ واللغويّ المنتمي إلى ما بعد الإسلام أو قبله كذلك. ويمكن في هذا السياق التطرّق إلى نوعين من التأويل أو درء التعارض بين النصوص، ونقصد درء تعارض الحديث مع النصّ القرآني، ثمّ درء تعارض الأحاديث فيما بينها.
درء تعارض الحديث النبوي مع النصّ القرآني:
عقد ابن قتيبة في كتابه فصولا عديدة لردّ مطاعن المخالفين المبنيّة أساسا على تعارض رأوه بين ما جاء في النصّ القرآني، وما يُروى عن النبيّ من أحاديث. ومن الأمثلة العديدة على ذلك ما طعن به معارضو أهل النقل من مخالفة الحديث الوارد في سنن الترمذي من أنّ الله «مسح على ظهر آدم عليه السلام، وأخرج منه ذريّته إلى يوم القيامة، أمثال الذرّ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم؟ قالوا: بلى». ويرى أهل الرأي أنّ هذا الحديث مخالف للآية « وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى» (الأعراف7/172)، ووجه الخلاف أنّ «الحديث يخبر أنّه أخذ من ظهر آدم، والكتاب يخبر أنّه أخذ من ظهور بني آدم»، ويخرج ابن قتيبة من هذا الاختلاف بين النصيّين معتبرا أنّ آدم في الحديث كناية عن بنيه لأنّهم منه، (ابن قتيبة، تأويل، ص 87). وبذلك يكون المخرج بلاغيّا بالأساس. ويقترب من هذا المخرج ما رآه معارضو أهل النقل من وجود تعارض بين ما روي عن النبيّ من قوله: « ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة»، ونقف عليه في النصّ القرآني في وصف الجنّة « عند سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى» (النجم53/14)، ويسعى ابن قتيبة إلى نفي التعارض بين النصيّن بقوله : «لم يرد بقوله: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» أنّ ذلك بعينه روضة، وإنّما أراد أنّ الصلاة في هذا الموضع، والذكر فيه يؤدّي إلى الجنّة، فهو قطعة منها» (تأويل، ص 121).
ولئن كانت مثل هذه الأمثلة عديدة، فإنّ الجدير بالانتباه حقّا هو الردود الموجّهة إلى عدد من الفرق الإسلاميّة الّتي تبني أحكامها الفقهيّة ومواقفها السياسيّة على النصّ القرآني دون غيره، وأهمّ تلك الفرق في هذا الصدد الخوارج، ونورد هنا مثالا يتعلّق بالجانب الفقهيّ؛ فالخوارج مثلا ينكرون تماما حكم الرجم في الزنا مكتفين بما ما ورد في القرآن من عقوبة الجلد، وينقل عنهم ابن قتيبة قولهم: « رويتم أنّ رسول الله (ص) رجم، ورجمت الأئمّة بعده، والله يقول في الإماء: فإن أتين بفاحشة، فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب» (النساء4/25)، والرجم إتلاف للنفس، لا يتبعّض، فكيف يكون على الإماء نصفه؟، وذهبوا إلى أنّ المحصنات ذوات الأزواج، قالوا: وفي هذا دليل على أنّ المحصنة حدّها الجلد» (ابن قتيبة، تأويل، ص 192). وهنا لابن قتيبة ردّان وردا في الكتاب متباعدين، أوّلهما اعتبار المقصود بالمحصنات الحرائر، وليس المتزوّجات (ص 192)؛ وثانيهما يقرّ بأنّ آية الرجم قد كانت من القرآن غير أنّها غابت عن المصحف؛ لأنّ شاة أكلتها ( تأويل ص ص 310-313).
أمّا المثال الثاني، فيرتبط بأحكام الزواج؛ فالخوارج لا يحرّمون من النساء إلاّ ما نصّ عليه القرآن، معتبرين أنّ الآية المتعلّقة بذلك آية النساء4/23 لم تذكر الجمع بين المرأة وعمّتها وخالتها، وأنّ الرضاع لا يحرّم إلاّ الأمّ المرضعة والأخت من الرضاع، ورأوا ما يروى في الحديث نقيض ذلك باعتبار أنّ النبيّ روي عنه: « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها»، وهنا يعمد ابن قتيبة إلى أمرين للردّ على ذلك؛ أوّلهما إقراره بإمكانيّة نسخ السنّة للقرآن، معتبرا أنّها جنس من الوحي؛ وثاني الأمرين، وهو مترتّب عن الأوّل، ويتلخّص في تقسيم السنّة إلى ثلاثة أنواع: أوّلها سنّة أتاه بها جبريل، ممّا يدلّ على أنّ ابن قتيبة يؤكّد أنّ نوعا من السنّة يندرج في إطار الوحي، وثانيها « سنّة أباح الله له أن يسنّها، وأمره باستعمال رأيه فيها، فله أن يترخّص فيها لمن يشاء على حسب العلّة والعذر»، أمّا النوع الثالث فيسمّيه ابن قتيبة « ما سنّه لنا تأديبا»، وهو ما لا إلزام فيه. ( يمكن مراجعة كلّ ذلك في: ابن قتيبة، تأويل، ص ص 194- 199). ولعلّ هذا التصوّر هو الّذي سيوجّه محاولات ابن قتيبة للجمع بين الأحاديث الّتي رأى فيها أهل الرأي اختلافا فيما بينها، فرموا الروايات بالتناقض، وهنا يمكننا النظر في القسم الثاني الكبير من درء التعارض بين النصوص والمتعلّق بالأحاديث فيما بينها.
درء تعارض الأحاديث فيما بينها:
نقف في كتاب ابن قتيبة على أمثلة عديدة من هذا النوع من التنازع حول حجيّة المرويّات، ولا نروم هنا تعديد الأمثلة المندرجة في هذا القسم، ويمكننا الاقتصار على جملة من الملاحظات. تتعلّق الملاحظة الأولى بالسعي الدائم إلى الجمع بين الأحاديث مع اعتبار صحّتها كلها وبدون استثناء، والعدول بها عن معناها الظاهر الصريح إلى معنى لا يمكن بلوغه إلاّ بالتأويل أو الإضافات الموضّحة لمغزى النصّ الحقيقيّ في نظر ابن قتيبة، أو كذلك من خلال بيان السياقات. ولئن أشرنا سابقا إلى بعض طرق التأويل المستعينة بالبلاغة واللغة والتأكيد على اشتراك المعنى وغيرها، فإنّنا نسوق هنا مثالا يكشف عن محاولات وضع سياق مخصوص للأحاديث يزيل عنها الاختلاف؛ فقد رأى أهل الرأي مثلا، أنّ التناقض حاصل بين ما روي عن النبيّ « من قتل دون ماله فهو شهيد»، وما روي عنه أيضا : « كن حلس بيتك، فإن دُخل عليك، فادخل مخدعك، فإن دخل عليك فقل: بُؤْ بإثمي وإثمك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل…»، فقد رأى الطاعنون في الحديث الثاني خلافا للحديث الأوّل. واللافت في ردّ ابن قتيبة على خصومه هنا تصريحه بوجوب وضع الحديث في سياقه، حتّى يُفهم المقصود منه، وبالتالي يزول الخلاف، يقول: « إنّ لكلّ حديث موضعا غير موضع الآخر فإذا وُضعا بموضعهما زال الاختلاف» . وتبعا لذلك رأى ابن قتيبة أنّ الخبر الأوّل يتعلّق بمقاومة اللصوص؛ أمّا الثاني، فمرتبط بزمن الفتنة (تأويل، ص ص 155- 156).
هذا الشاهد يؤدّي إلى ملاحظة ثانية عامّة حول المطاعن والردود في مجملها؛ فالملاحظة العامّة الّتي يمكن تأكيدها من خلال ما قدّمناه أنّ الطاعنين في حجيّة الحديث انطلاقا من تعارض المرويّات تنطلق دائما وأبدا من النصوص في حدّ ذاتها، في حين أنّ الردود تقوم أساسا على معطيات خارجيّة عن النصوص، تستند إلى التأويل المعنويّ أو اللفظيّ أو السياقي، بما يعنيه ذلك من اعتماد على اللغة والسياقات الدلاليّة وحتّى التاريخيّة أيضا، هذا بالإضافة إلى أنّ الردود تعتمد على المقولات الأصوليّة الفقهيّة من قبيل النسخ والعام والخاص والمجمل والمفصّل وغيرها، وعلى تصوّر للسنّة أخذ يتبلور شيئا فشيئا معتبرا أنّها في جانب منها من جنس الوحي، ممّا يؤسّس إلزاميّتها التشريعيّة والعقائديّة، وهو أمر لم يكن محلّ توافق لدى كلّ المسلمين.
أمّا الملاحظة الثالثة، فمرتبطة بإدراج بعض أقوال الصحابة في دائرة نقليّة واسعة، قد تعامل أحيانا معاملة الحديث النبويّ نفسه؛ فالملاحظ للمطّلع على مجاميع الحديث أنّها اشتملت بالإضافة إلى أقوال الرسول وأفعاله أقوال جملة من الصحابة وأفعالهم، ممّا يدلّ على إكسابها صبغة معياريّة ملزمة بدورها، ومثال ذلك في كتاب ابن قتيبة محاولة جمعه بين الحديث « الأئمّة من قريش»، وما روي عن عمر عند موته : « لو كان سالم، مولى أبي حذيفة حيّا ما تخالجني فيه الشكّ»، ووجه الطعن لدى أهل الرأي هنا أنّ سالما ليس من قريش، فكيف يقدّمه عمر للإمامة؛ أي للخلافة، وهو ما يعارض ما روي عن النبيّ؟ ووجد ابن قتيبة الحلّ في اعتبار الحديث في الخلافة، أمّا قول عمر ففي الصلاة فقط. ( تأويل، ص 122- 123). ولئن دلّ هذا الأمر على محاولات لتوسيع دائرة المرويّات، فإنّه من جانب آخر يكشف عن استقراء للمرويّات يقوم على التسليم بصحّتها أوّلا، ثمّ محاولة إيجاد صيغ لفهمها، تنطلق لا من النصوص في حدّ ذاتها، بل من واقع المصنّفين وما يحملونه من آراء وعقائد، وما يتّبعونه من أحكام فقهيّة وغيرها.