يمثل المشروع الفكري الذي وطد أركانه المفكر المغربي عبد الله العروي في مؤلفات عديدة ومتنوعة لحظة متميزة في سياق الثقافة العربية الحديثة. فقد اتسم جهده الفكري بكثير من الغنى النظري والتماسك المنهجي. الأمر الذي أهله للخوض في إشكالات الفكر العربي المعاصر بكثير من الكفاءة والفاعلية. إذ ما فتئ العروي يلفت الانتباه، منذ صدور كتابه المهم ”الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، بقدرته الفائقة على تجديد السؤال الفلسفي وتطوير وسائل التحليل المنهجي. لقد دشنت كتابات هذا المفكر عهدا جديدا في الفكر العربي المعاصر لما قدمته من معالم وإرهاصات تؤذن بميلاد مشروع ثقافي مختلف يتأسس على اختيارات فكرية وفلسفية واضحة تتوخى مساعدة المجتمعات العربية على تمثل أسس الحداثة واستيعاب أصول المعاصرة استنادا إلى وعي تاريخي منفتح تتجاوب فيه أسئلة الواقع مع معطيات التاريخ. فما هي أبرز ملامح المشروع الحداثي عند عبد الله العروي؟ وما هي أهم أسسه الفكرية ومنطلقاته التنظيرية؟
I– دفاع عن الحداثة:
تكشف المعاينة الدقيقة لأعمال عبد الله العروي أنه ظل يتحرك ضمن أفق فكري محدد تجسد في واقع التأخر العربي الذي احتل مكانة مركزية في مؤلفات هذا المفكر الذي سخر مجمل إنتاجه الفكري من أجل بناء ممكنات الحداثة ورسم سبل التحديث في الوطن العربي. يقول ”إن ما كتبت إلى الآن يمثل فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة”[1]. ولذلك مثلت الحداثة فكرة محورية عند العروي. فقد أقر بأنه صدر في جميع مؤلفاته عن فكرة أساس تمثلت في “تحديث الفكر والمجتمع العربيين”[2].
يتحدد مفهوم الحداثة عند العروي بأنه قطيعة مع طريقة التفكير الموروثة عن القرون الوسطى. ذلك أن المبادئ والمنطلقات المؤسسة لفكرة الحداثة تختلف بشكل كلي عن الخلفيات المرجعية الناظمة لمختلف أنماط التفكير السلفي التي أخضعها العروي للتحليل المنهجي بغرض الوقوف على أهم أسباب انتشار الفكر التقليدي وتحديد وسائل مقاومته. وقد استلزم ذلك أن يوجه العروي جهوده الفكرية إلى نقد الأصول المعرفية المؤسسة لمرجعية التفكير التقليدي من جهة، والعمل على تحديد معالم المشروع الحداثي الذي يمثل بالنسبة إليه مقترحا فكريا وسياسيا بديلا يتيح للمجتمعات العربية تجاوز حالة التأخر الحضاري، والانخراط في حركة التاريخ الكوني. وقد مثلت الدعوة إلى القطيعة المنهجية مع التراث ونقد منظومة التفكير السلفي مدخلا ملائما لتحقيق هذه الغاية.
1- ضرورة القطيعة مع التراث:
يمكن اعتبار كتاب ”مفهوم العقل، مقالة في المفارقات” محاولة نقدية لبعض صور التفكير التراثي، الذي يحتمي أصحابه بالماضي هروبا من مواجهة الأسئلة المحرجة التي يطرحها الحاضر. وقد اختار العروي مساجلة أصحاب هذا التوجه بطريقة تقوم على النقد المؤسس على الحجج والبراهين التي تتساند فيما بينها وتتعاضد في تركيب استدلالي يتيح الكشف عن محدودية العقل الإسلامي الذي تستند إليه أطروحات الفكر السلفي. فقد لحظ العروي أننا ما فتئنا، من جهة أولى، ”نقول ونكرر منذ عقود أن الفكر الذي ورثناه عن السلف – ما يسميه البعض التراث- يدور كله حول العقل”[3] وأننا ”نؤمن ونقول منذ قرون إن الموروث من ثقافتنا مبني على العقل إطلاقا”[4]. لكن حياتنا اليومية، من جهة ثانية، مليئة بصنوف عديدة من اللامعقول، مما يدفع إلى طرح سؤال إشكالي يكشف بوضوح مفارقة العقل الإسلامي: ”أولا يكون العقل الموروث الذي نتصوره ونرثه ونعتز به هو بالذات أصل الإحباط؟”[5].
مثلت البرهنة على ضرورة القطع مع التراث فكرة مركزية في كتاب “مفهوم العقل” فهي تخترقه من بدايته إلى نهايته[6]. فقد أرجع الباحث مظاهر التأخر التاريخي والحضاري، التي لازمت المجتمعات العربية، إلى العقل التراثي الذي ظل منطقا مضمرا يوجه عملية التعقل والتفكير في سياق الثقافة العربية: “ما كنت لأكتب في الموضوع لو عدنا نعني بالعقل في آن ما نعتقد ونقول. ما نفعل وننجز. كان ذلك حلم زعماء الإصلاح ولا يزال إلى يومنا هذا حلما غير محقق”[7].
إن الثقافة الإسلامية، من وجهة نظر العروي، لا تتحدد بوصفها ثقافة عقل، لأن ”العقل الذي تحتفل به مفهوم ملتصق بها ومفارق لما يعرف بنفس الاسم في المجتمع المعاصر”[8]؛ فالعقل بمفهومه الحديث لم يعد نظرا أو استدلالا كما كان الشأن بالنسبة إلى العقل بمفهومه التقليدي، ولكنه تحول إلى عمل وإنجاز وسلوك. لقد تميز العقل في سياق الثقافة الإسلامية لأنه ظل محدودا بـ ”عقل أعلى” هو العلم المطلق المؤدي إلى اليقين والذي ينتفي معه كل إعمال لقدرات العقل من فحص وتأمل وحيرة وتردد، لأن ”اليقين حاصل قبل النظر”[9] مما يجعل العقل يتحدد حسب هذا التصور، باعتباره” تأويلا” أي عودة إلى ”الأول”[10]إنه ”عقل النص”[11]. هذه هي مفارقة العقل في الثقافة الإسلامية، فنحن ما نفتأ نردد أن ديننا هو دين العقل، لكن الفهم التراثي ربط العقل بالمطلق وحصره في التأمل والنظر ومنعه من العمل والإنجاز، في حين يعترف المسيحيون بأن دينهم لا يقوم على العقل ومع ذلك تمكنوا من استيعاب مكاسب الحداثة وحققوا التقدم المنشود: “المجتمع الأبعد عن العقل؛ أي أوربا الغربية هو الذي تمكن من تحقيق الممكن، في حين أن المجتمع الأقرب إلى العقل نظريا، أي الإسلامي، هو الذي توقف عند آخر عقبة كانت تفصله عن اكتشاف عالم جديد. أو ليست هذه مفارقة؟”[12]. إنها مفارقة محمد عبده التي نجمت عن ”الحصر الذي جعله ينفي الزمان ويظل وفيا للذهنية الكلامية التقليدية”[13].
لقد مثلث هذه المفارقة باعثا على فحص منظومة التفكير التراثي من خلال التناول الإشكالي والنقدي لمفهوم العقل بغرض نزع صفة البداهة عنه: ”ما دفعني إلى التساؤل حول مفهوم العقل هو أني أخذت المفارقة (مفارقة عبده أولا، وثانيا تلك التي يعيشها يوميا كل واحد منا) مأخذ الجد”[14]. ولذلك تركز جهد العروي في كتابه ”مفهوم العقل” على فحص المرجعيات المؤسسة لخطابات الإصلاح التي يدعو أصحابها إلى التجديد انطلاقا من التراث. لقد أعاد ترتيب عناصر الفكر الإسلامي مما أتاح له الكشف عن محدودية الدعوة إلى استعادة منظومة التفكير التراثي، لأن العقل الموروث في نظره هو بالذات أصل الإحباط[15]. ولذلك قرر أن الطريق إلى الحداثة رهين بتجاوز العقل التراثي أسوة بالشعوب الأخرى التي قطعت أشواطا كبيرة في مسار الحداثة والتحديث. ”إن الحسم الذي نتكلم عنه قد وقع بالفعل في جميع الثقافات المعروفة لدينا ابتداء من القرن 16 م إلى يومنا هذا”[16]. المطلوب إذا القطع مع منظومة التفكير التراثي التي تشتغل وفق قواعد ”المنطق الموروث، منطق القول والكون، منطق العقل بإطلاق”[17]. ذلك أن تحديث المجتمع وعقلنة الفكر لا يمكن أن يتحققا إلا “بالاختيار والحسم؛ أي اتخاذ القرار بالسير في طريق ”ما ليس منه بد” حسب عبارة إمبراطور اليابان بعد هزيمة 1945”[18].
بهذا الانحياز الصريح إلى قيم المعاصرة والتحديث حسم العروي موقفه من مفارقة الشيخ محمد عبده ومعه جميع التراثيين الذين يصدرون عن مواقف انتقائية توفيقية تؤدي في نهاية المطاف إلى بروز هوة شاسعة بين العدة الذهنية والواقع الاجتماعي[19]، حيث قرر العروي بشكل قاطع أن كل من يتعامل مع التراث بمنطق القدامى ومفاهيمهم يكون قد ”خرج من زمانه إلى زمان آخر”[20].
لقد أوضح العروي أن المنهجية الكلامية التقليدية عملت على حصر فاعليه العقل في “عقل النص” الذي يمثل الأصل الناظم لمرجعية التفكير السلفي بمختلف أشكاله وصوره؛ فالنصيتحدد في المرجعية التقليدية بأنه ”كلام وبيان. بل هو الكلام، الكون، والقول، والحق، والعلم، والعقل”[21]. النص بعبارة جامعة ”مرآة العقل والكون معا”[22]. وبذلك تم حصر العقل بمفهومه التراثي في “النص”. وقد نجم عن ذلك أن “المعقول” في الثقافة العربية الإسلامية أصبح يتشكل من الخبر والحكمة والسنة أو التقليد أو سر الإمام. وتلتقي هذه الأسماء جميعها في أنها تسعى إلى العقل المطلق؛ ”العقل هو ما يعقل العقل ويحده، وما يعقل العقل ويؤسسه كعقل هو المطلق الذي هو علم مطلق”[23].
لقد ترتب عن سيادة ”العقل المطلق” الذي يتفوق على العقل البشري “المجتهد” أنه ”كيف عقل العقل، أي فهم المنطق بطريقة جعلت ذهن المسلم لا يلتفت إلى الطبيعة وإن اختار المسلك الاستقرائي، لأنه يطبقه على نصوص وأقوال لا على أعراض وأحوال الطبيعة”[24]. ولذلك ظل العقل الإسلامي عقلا تأمليا فرديا، يتحدد بوصفه ”مفهوما نظريا”[25] ولم يستطع تجاوز النظر إلى العمل. وبالتالي ظل عاجزا عن ”عقل الزمان”[26]؛ أي إدراك واستيعاب مبادئ التطور وشروط التغير. والنتيجة المترتبة عن ذلك افتقار العقل في السياق الإسلامي إلى أبرز مقومات الحداثة. يتعلق الأمر بالتجريب (العلم الصناعي أو التكنولوجيا). وبذلك تحققت “القطيعة الجوهرية بين القديم والحديث”[27].
رفض العروي منهجية التفكير التراثي التي تقوم على الفصل بين الموقف الحياتي والموقف المعرفي انطلاقا من تصور فكري يرى أن مطلب الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا بالقطع نهائيا مع قواعد ومبادئ العقل التراثي. فقد قرر أن ”امتلاك بداهة جديدة لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي. حاجز تراكم المعلومات التقليدية. لا يفيد أبدا النقد الجزئي. بل ما يفيد هو طي الصفحة (…) وهذا ما أسميته ولا أزال أسميه بالقطيعة المنهجية”[28]. وقد جاء موقف العروي الداعي إلى القطيعة مع التراث نتيجة الاهتمام المتزايد الذي لقيته الظاهرة التراثية عند بعض المعاصرين الذين عملوا على استعادة مقولات الماضي من أجل توظيفها سياسيا في معارك الحاضر: ”إن التراث تحميه اليوم مؤسسة لا تترك لأحد حرية التأويل ومن أراد أن يحيي كلام البعض من مفكري الماضي، فإنه لا محالة مدفوع إلى إحياء الكل. وهذا هو سر موقف المؤسسة التقليدية عندما تصفق لإحياء كل قسم من التراث القديم مهما كانت الأغراض والظروف، لأنها تعلم أن النتيجة العامة ستكون في صالحها”[29].
ومن أجل البرهنة على ضرورة القطع مع التراث توقف العروي عند واحدة من مفارقات الوعي العربي المعاصر جسدتها تصورات ومقترحات الشيخ محمد عبده الذي اتخذ العروي من فكره حالة تمثيلية نموذجية توخى من تفكيك عناصرها الاستدلال على محدودية المرجعيات الفكرية التي يصدر عنها المنادون بالتجديد انطلاقا من منظومة التراث.
2- نقد منظومة التفكير السلفي:
يندرج خطاب عبد الله العروي في سياق فكري وثقافي تميز بتنامي المواقف التراثية التي اتسمت بنزعة توفيقية جديدة توخت الدفاع عن اختيارات بعينها في السياسة والثقافة والمجتمع استنادا إلى منطق التراث ومرجعياته الفكرية والثقافية. وهو ما شكل من وجهة نظر العروي تراجعا عن منجزات الفكر الحداثي الذي يقوم على أسس مغايرة تماما لمختلف صور التفكير التراث. ولذلك اعتبر العروي صاحب الأطروحة الأكثر جذرية في مجال نقد الفكر السلفي، الذي يصدر عن مرجعية تقليدية تراثية. فقد ذكر أن مناقشته لأصحاب الفكر السلفي جعلته يستخلص أن ”الرجوع إلى نظريات الماضي والحفاظ على أصالة فارغة وهم يعوق التطور”[30] كما أعلن داعية التاريخانية أن ”الأهمية التي تعطى للتقليد باعتباره قيمة تبدو مقلقة”[31]، لأن ”الماضي لا يمكن أن يخدمنا في حل مشكلتنا”[32].ولا ينبغي أن نفهم من هذا القول أن العروي يدعو إلى الانصراف كلية عن الاشتغال بالتراث؛ فالموقف السلبي من المتن التراثي لا يتعارض مع دراسته وفق رؤية أكاديمية صرف: ”لست أنكر التقليد بوصفه حدثا، فأنا أدرسه كظاهرة ولكني أنكره كقيمة”[33].
إن ما يرفضه العروي هو رأي التقليديين الذين يقررون أن ”التقليد أحسن حل لمشاكل الحاضر”[34] فهذه الفكرة غير واردة تماما عند العروي الذي يصر على ضرورة ”طي الصفحة”[35] بصورة نهائية، لأن القطيعة المنهجية مع مضمون التراث ومنطق التقليد تمثل شرطا ضروريا لكل تحول تاريخي مرتقب ”لابد من الاختيار، من الفصل والحسم والجزم. إذ في الجزم [لعله يقصد الحسم] يكون رفض كل ما هو تقليد من جميع النواحي”[36].
لقد توخى العروي من نقد منظومة التفكر السلفي ”دفع الحاجز الذهني الذي كان يمنع من وزن الأفكار حسب حاجتنا التاريخية إليها”[37]. ولذلك قدم نقدا عميقا ودقيقا للخلفية الفكرية التي يتأسس عليها منطق وخطاب دعاة التجديد السلفي. الأمر الذي مكنه من وضع اليد على كثير من مفارقات الوعي العربي في الوقت الراهن. فقد اتخذ العروي من الشيخ، الذي وجه إليه سهام نقده، رمزا لجميع محاولات الإصلاح التي تلجأ إلى الماضي بحثا عن أجوبة لأسئلة الحاضر، حيث التجديد في تصورهم “إحياء القديم الأصيل”[38].
وقد بين العروي أن مفارقة عبده تجسدت بشكل أساس في البحث عن أجوبة لأسئلة الحاضر في التراث. مما أدى إلى خلق هوة بين ”الملاحظ والمروي، ما نجربه يوميا ونقول به (غير المعقول) وما نرويه من تراث الماضي ونقول عنه (كله معقول)”[39]. وهذه المفارقة ليست خاصة بعبده، ولكنها تشمل كل التراثيين الذين يرون في الماضي الحقيقة المطلقة والمغلقة. إذ يتولد عن ذلك ”عملية متواصلة من التماهي تجعل اللاحق يظن أنه يفهم السابق لأنه يتمثل مسبقا موقفه المعرفي فيمحي من ذهنه كل ما يميزه عما يدرس تاريخيا واجتماعيا”[40]؛ فالحق في منهجية التفكير التراثي واحد وثابت لا يتغير ولا يتبدل. ولذلك غلب على أصحاب الفكر التراثي الميل إلى استدعاء أقوال المتقدمين والنظر إليها باعتبارها حجة تحسم كل خلاف يعرض للناس في سائر العصور والبيئات. ويترتب عن ذلك انفصال الموقف الفكري عن الموقف الحياتي عند أصحاب هذا الفكر الذين ينطلقون من أن كل سلوك يوافق العقل والفطرة كان موجودا ”في زمن ما في الماضي وسيحصل في زمن ما من المستقبل، ولكنه غير حاصل في الحاضر. وهكذا يكون الفصل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون هو بالضبط ما يضمن الربط بينهما في الماضي والمستقبل”[41].
لقد كشفت لحظة محمد عبده عن مفارقة الوعي العربي المعاصر. وقد توخى العروي من التوقف عند أفكاره إبراز مظاهر القصور في المشروع السلفي برمته، متخذا من تصور الشيخ حالة تمثيلية نموذجية مكنته من تشخيص محدودية الخلفية الفكرية الناظمة للذهنية التقليدية بشكل عام. فقد أوضح أن عديدا من المثقفين التراثيين المعاصرين، الذين يستعيدون لحظة محمد عبده، لا يدركون طبيعة منظومة التفكير التي يعملون على إحياء بعض عناصرها من أجل مواجهة إحراجات اللحظة الراهنة. وإذا كنا نسلم بأن لمنظومة التفكير التراثي حدودها ومستوياتها التي تجعل من بعض جوانبها لحظة امتياز في سياق عقلانية العصور الوسطى، فإنه ينبغي الإقرار كذلك بأن العودة إلى الماضي والاحتماء بمرجعياته سيؤديان حتما إلى استمرار لحظة التأخر التاريخي ومضاعفة آثاره، لأن الإطار المعرفي للحداثة كما بلوره الفكر الغربي المعاصر يقطع تماما مع جميع طرائق التفكير الموروثة التي يجري النظر إليها باعتبارها لحظات معرفية تكرارية مغلقة على تاريخ معين. وتستوجب هذه النظرة القطع مع الفكر التراثي بجميع أشكاله وصوره من أجل تجنب المفارقات التي تطرحها الدعوة إلى التحديث من منطلق الإحياء والتجديد من الداخل.
لقد فحص العروي أفكار الشيخ الإصلاحية التي دعا فيها إلى بعث وتجديد الإسلام انطلاقا من منظور سلفي يستند إلى عقلانية اسمية نصية ومتعالية. وقد مثلت مقدمات العروي المنهجية ومراجعاته النقدية منطلقا للتفكير في قضية الحداثة والتحديث في الوطن العربي، حيث تتقاطع في أبحاث العروي إشكالات التأخر بمسائل الإصلاح ومطالب التحديث. ومن هنا اتخذ تفكيره وجهة أساسا تمثلت في الدفاع عن الحداثة والفكر التاريخي والعمل على ترسيخ مبادئهما من أجل الانخراط في حركية التاريخ الكوني: ”لكي نعمل ونعمل بجد، لا مفر إذن من اعتناق النظرة التاريخية. لنظرة السلف، أما نبقى أوفياء في العمق لنظرة السلف ونأمل مع ذلك تغيير معنى واتجاه وقائع الماضي التي لم تكن في صالحنا. فهذا كلام بدون محتوى”[42].
يتميز التفكير السلفي بكونه يبتعد كثيرا عن قواعد وشروط التفكير العلمي ومنطلقاته النظرية المنحازة لقيم العقلانية والنسبية والتاريخانية، حيث يتحدد منهج السلفيين بأنه ”اللجوء إلى ضمانة الماضي لإنجاز إصلاحات فرضها الحاضر”[43]. وقد مثل الاعتراف بالتأخر والدعوة إلى تجاوزه بالعودة إلى التراث الفكرة المركزية الناظمة للذهنية السلفية المؤسسة على مرجعية فكرية تقليدية مهما تخفت وراء مصطلحات ومفاهيم محدثة، لأن ”التقليد يعادي دائما التجديد فيجد دائما داخل المجتمع الذي لا يزال مكبلا بقيد الماضي من يدافع عنه بوسائل الوقت، وسائل تجديدية في الظاهرة، تقليدية في الباطن، ما كان يقال أمس بأسلوب الأزهر يقال اليوم بأسلوب السوربون وأوكسفورد”[44].
لقد تمكن العروي من تشخيص مفارقة التفكير السلفي من خلال تحليل وتفكيك عناصر المنظومة المرجعية التي يستند إليها المثقف التقليدي من أجل مواجهة الأسئلة المربكة التي يطرحها عليه الواقع الجديد، حيث بين أن مفارقة الشيخ عبده، وهي مفارقة جميع التراثيين، تكمن في أنه ”استنجد بالعقل المطلق”[45] مما أدى إلى العجز عن ”عقل الزمان”[46] أي التطور والتغير الحاصلين في فكر الإنسان. لقد توقف عبده عند لحظة ظهور الإسلام مع أن الزمن لم يتوقف. وبذلك بقيت تصوراته الثقافية ومقترحاته الإصلاحية وفية لنظام الفكر الذي حكم الذهنية الكلامية التقليدية.
II– عناصر المشروع الحداثي:
تندرج أعمال عبد الله العروي في سياق الجدل الإيديولوجي الذي ساد الفكر العربي المعاصر بين دعاة الإصلاح السلفي وبين ممثلي الاتجاه الليبرالي القومي. وقد تركز الجدال بين أصحاب هذه المشاريع الفكرية حول قضية مركزية تمثلت في تشخيص وضعية التأخر التاريخي والتفكير في سبل تجاوزها. في هذا السياق الذي غلب عليه السجال الإيديولوجي تبلور خطاب العروي بوصفه جزءا من الإصلاحية العربية التي كانت تتفاعل في المشرق والمغرب على حد سواء في هذه الفترة. وقد شكل الوعي بتخلف المجتمع حافزا قويا عند العروي على بحث أسبابه وتقصي أشكاله ومظاهره. ولذلك مثلت الدعوة إلى الأخذ بأسباب الحداثة وضرورة الانخراط في سيرورة التطوير والتحديث مرتكزا مهما من مرتكزات البرنامج الإصلاحي الذي اقترحه العروي: ”لم يستوعب الفكر العربي مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية وإنسية، لكن هذا الاستيعاب. مهما تأخر، سيبقى في جدول الأعمال. كلما تأخر، كلما تشابكت الأوضاع وضعفت فعالية المجتمع العربي ككل، وليس ترديد الدعوة اليوم عنوان الرجوع إلى فترة سابقة بقدر ما هو وعي بنقص خطير ومحاولة استدراكه بأسرع ما يمكن”[47].
لقد انتقد العروي الأفكار الإصلاحية التي دعا إليها أصحاب المشروع السلفي كما أبرز مظاهر القصور في الاقتراحات التي طرحها دعاة الاختيار الليبرالي، ليقدم بدلا من ذلك مشروعا فكريا واضح المعالم توخى من خلاله أن يقدم التحليل المعقول لماضي وحاضر ومستقبل العرب، حيث أكد العروي أن الاستيعاب الدقيق لعناصر المشروع في أبعاده الفلسفية والسياسية والتاريخية من شأنه أن يقود إلى التغلب على النزعة السلفية والاختيار الانتقائي معا[48]. وقد شيد العروي مشروعه الفكري على جملة من الأسس والمرتكزات أهمها الثورة الثقافية والفكر التاريخي والماركسية الموضوعية والبعد الكوني للحداثة.
1- الثورة الثقافية:
افتتح العروي معركته الإيديولوجية مع ممثلي الثقافة العربية بكتابه ”الإيديولوجيا العربية المعاصرة” لتتولى أعماله اللاحقة توضيح معالم المشروع الثقافي الذي يقترحه بديلا فكريا وسياسيا يتيح للعرب امتلاك أسس الحداثة وتمثل أصول المعاصرة. وقد اتخذت المعركة الإيديولوجيا صورة أكثر راديكالية في كتابه الأشهر ”العرب والفكر التاريخي” الذي شيد العروي من خلاله خطابا برهانيا متماسكا وإن غلب عليه الطابع السجالي الذي يمثل عنصرا ملازما لكل دعوة إيديولوجية تتوخى المساهمة في تحقيق ثورة ثقافية حقيقية. حدد العروي في ”الإيديولوجية العربية المعاصرة” النماذج التي تمثل الثقافة العربية المعاصرة فحصرهم في ثلاثة؛ الشيخ، والسياسي الليبرالي، وداعية التقنية[49]، لكنه ما لبث أن راجع هذا التقسيم في كتابه ”العرب والفكر التاريخي” حيث اعتمد نمذجة ثنائية ينقسم بموجبها المثقفون إلى صنفين اثنين؛ أغلبية تفكر حسب مبادئ المنطق السلفي وأقلية تفكر بمنطق ليبرالي انتقائي[50].
بعد مناقشة تفصيلية لأفكار ومقترحات ممثلي الإيديولوجيا العربية المعاصرة أعلن العروي فشل هؤلاء جميعا في تحقيق التحول التاريخي المنشود؛ فالشيخ الذي يرمز به العروي للمثقف السلفي يؤمن إيمانا راسخا بأن التراث يمثل ”نظاما عقائديا كافيا وشافيا قادرا على تزويدنا بكل ما نحتاج إليه من حلول لكل مشكلات العصر”[51]. غير أن السلفي عندما يقدس الماضي ويدافع عن الحقيقة الكلية المتعالية يجعلنا ”نعيش بأجسامنا في قرن وبأفكارنا وشعورنا في قرن سابق”[52]. أما المثقف الليبرالي الانتقائي فمأساته أعمق، لأنه يكتفي بالمواكبة السطحية لإنجازات الحضارة الغربية، فيقع نتيجة لذلك ضحية استلاب وتبعية غير واعية للغرب المتقدم ”هؤلاء هم ضحية إغراء الغرب حسب تعبير مالرو. تنعكس اللبرالية الأوربية في أذهانهم انعكاسا تماما في الوقت الذي تواجه تلك الليبرالية في أوربا ذاتها هجومات من كل جانب. تتشابه سيرهم مهما تباعدت أوطانهم. يساهمون في البداية ولمدة قصيرة في الحياة السياسية، ثم يتفرغون للعمل التربوي. تخونهم الظروف. وضمن المجابهة الكبرى، بسبب تغاير الليبرالية لمجتمع لم تنشأ فيه، نرى بعضهم ينساق إلى اليأس وينعكف نحو قيم التقليد”[53].
لقد مثل النهوض الثقافي، بالنسبة إلى العروي، مدخلا ضروريا لكل تحول تاريخي مرتقب: ”إذا أردنا أن نعطي فعالية لعملنا الجماعي وإبداعية حقيقية لممارستنا السياسية والثقافية فلا بد من ثورة ثقافية تعم المجتمع بجميع فئاته وتقلب المنهج الحديث في الصورة التي ظهر بها في بقعة معينة من العالم لا في ثوب مستعار من الماضي. هذه الثورة الثقافية مازالت في جدول الأعمال”[54]. ولا يمكن إنجاز ثورة ثقافية في نظر العروي إلا من خلال حرب إيديولوجية متواصلة، حيث يتوجب على المثقف ”أن ينفذ إلى الجذور ويتصدى لحرب إيديولوجية لا هوادة فيها. كانت الواجهة الثقافية الإيديولوجية دائما هادئة لأنها ميدان تعايش على أساس عبادة المطلقات. هذا الهدوء يجب أن ينتهي ويخلفه صراع متواصل”[55].
ومن أجل بلوغ هذه الغاية يطلب العروي من المثقف الجديد (التاريخاني) أن يقوم بدوره في تحديث المجتمع ومساعدته على تجاوز التأخر الحضاري. وذلك بالانخراط في سجال فكري حاد ومتواصل يتيح البرهنة على فساد أفكار وأطروحات الإيديولوجيات السائدة التي ترفض الديمقراطية وتعادي النزعة التاريخانية: ”لكي يكون التاريخ ميدان جد ومسؤولية لابد من اعتبار الحقيقة المطلقة كحركة وكصيرورة. عندما يصف المؤرخ حدثا ما و يريد أن يعطيه وزنا وقوة تأثير، يلزمه حتما ألا يكون مقتنعا بقيمته أو بتفاهته مسبقا. يجب أن يفترض أن مغزاه سيظهر تدريجيا يوما بعد يوم وعملا بعد عمل وحكما بعد حكم. بدون أن يأمل أن يرسم صورته الكاملة القارة. كل عمل تاريخي ناقص بدون معرفة نتائجه. وهذه تتشعب وتتوالى إلى ما لا نهاية. وكل حكم في التاريخ قابل للاستئناف للسبب ذاته. وهذا المبدأ هو في آن واحد أساس النزعة التاريخية والديمقراطية والعلم الحديث”[56].
ينبني المشروع الثقافي البديل الذي يقترحه العروي على أساس فكري تاريخاني يؤمن بقدرة الإنسان على الفعل والإنجاز بما يقود إلى إغناء وتطوير مكاسب الحداثة كما بلورها الغرب الحديث والمعاصر. ذلك أن تجربة التحديث التي يتعين على المجتمعات العربية أن تخوضها ينبغي أن تقطع مع منطق التقليد الذي يتشكل باعتباره لحظة تكرارية تتوخى استعادة أمجاد الماضي (المشروع السلفي) أو تطمح إلى التطابق مع منجزات الحداثة الغربية (الاختيار الليبرالي). فقد أوجز العروي عناصر الأنموذج المثالي الذي يشكل ظاهرة الحداثة فحددها في الطبيعة والعقل والفرد والحرية، فالحداثة ”تنطلق من الطبيعة معتمدة على العقل في صالح الفرد لتصل إلى السعادة عن طريق الحرية”[57].
وقد حدد العروي شروطا ثلاثة من أجل بلوغ هذه الغاية[58]:
1- معرفة معطيات الثقافة الحديثة.
2- معرفة تجربتنا التاريخية في كل مظاهرها.
3- إذكاء الوعي.
لذلك وصف العروي مشروعه الثقافي بأنه ”نقد إيديولوجي للإيديولوجية العربية (…) كتمهيد للعمل على تغيير الهياكل الاجتماعية. نقد موجه أساسا للناحية المثقفة في مرحلة انتقالها فرضتها إخفاقات الماضي وانحرافات الحاضر حتى نتهيأ لمرحلة لاحقة قد يعيننا على كسب معاركها التوضيح الإيديولوجي المتبوع بالتزام سياسي”[59].
وما من شك أن استخدام العروي لمفاهيم تعود إلى حقل الفلسفة التاريخية (“الإيديولوجية العربية المعاصرة” و”العرب والفكر التاريخي”) ثم تدعيم ذلك بدراسات معمقة تمحورت حول مفاهيم بعينها (الدولة والحرية والإيديولوجية والتاريخ والعقل) قد أسهم في توضيح وترسيخ القناعات الفكرية والاختيارات الإيديولوجية التي اعتنقها ودافع من أجل التأسيس لفعل ثقافي أكثر نضجا وممارسة سياسية أكثر واقعية ومردودية. فقد ارتبط عمل العروي في تدقيق المفاهيم بمشروع تحديث المجتمع وتطويره. يقول: ”إننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يجدها زمان ولا مكان. بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير وحسب. بل إننا نعتقد أن شجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء”[60]. ولذلك أدرج العروي سلسلة كتب المفاهيم التي أنجزها ضمن غاية كبرى تمثلت في تحديد ”منطق الحداثة”[61] الذي شكل مفهوما مؤطرا ومهيمنا صيغت في ضوئه مفاهيم السلسة ككل[62]. فقد أوضح العروي أن موضوع سلسلة المفاهيم “مرتبط بالوضع الذي نعيشه منذ قرنين، حيث انقطعت الصلة بيننا وبين وإنجازات ومنطق تراثنا الثقافي”[63].
لقد وضع العروي الأسس الأولية لمشروع ثقافي طموح توخى من خلاله الإسهام في تغيير الذهنيات وأنماط السلوك باعتبارها خطوة ممهدة تقود إلى تحقيق ثورة ثقافية تمكن من توطيد دعائم الحداثة وترسيخ مبادئ المعاصرة في المجتمعات العربية انطلاقا من وعي فكري تاريخاني.
2- الفكر التاريخي:
يرجع العروي فشل المشروع الإصلاحي الذي دعا إليه ممثلو الإيديولوجية العربية إلى غياب الوعي التاريخي؛ فالأفكار التي اقترحها الاتجاهان الرئيسان في الإصلاحية العربية (السلفي والليبرالي) من أجل مواجهة مشكلة التأخر العربي لا تستحضر معطيات التاريخ ولا تعتد بدروسه؛ السلفي منشغل بالدفاع عن هويته مطلقة ومغلقة تحت ذريعة المحافظ على المقومات الذات الحضارية أمام تهديدات الآخر الأجنبي. أما الليبرالي فغارق في منجزات الحضارة الغربية دون أن يتسلح بوعي نقدي يتيح له استيعاب متطلبات اللحظة التاريخية التي ينتمي إليها. مما يجعله يسقط في الاستلاب الثقافي والحضاري. وهي النتيجة الحتمية لكل تقليد أعمى يتجاهل معطيات الواقع ولا يتجاوب مع دروس التاريخ.
إن غياب الوعي التاريخي لدى ممثلي الإيديولوجية العربية المعاصرة جعل مشاريعهم الإصلاحية منفصلة تماما عن الواقع، فالسلفي يطمح إلى استعادة أمجاد الماضي التي تتردد في وجدانه في صورة “حنين رومانسي”[64] لينتهي به الأمر بأن “ينحل في شخصيات السلف الصالح”[65]. أما الليبرالي فيلقي بنفسه في تيار الحداثة الغربية ليعيش حلم التقدم الذي لا يعدو أن يكون، في الحقيقة، وهما أو طوبى متخيلة. وفي جميع الأحوال يعيش رواد الإصلاحية العربية انفصاما رهيبا يجعلهم لا يرون ما يقع أمامهم: “إذا ربطنا الأصالة بإنجازات الماضي فقد تاه كلامنا عن المقاصد، لأنه يشير إلى تاريخ بائد. وإذا ربطناها بالإنجازات الحالية كان كلامنا فارغا، لأن ثقافتنا الحالية مقتبسة في جل مظاهرها باتفاق الجميع”[66].
ولذلك انتقد العروي بحدة البرنامج السلفي والاختيار الليبرالي على حد سواء؛ فكلاهما لم ينجح في تقديم مشروع إصلاحي حقيقي يمكن من تجاوز حالة التأخر التاريخي: ”يوجد على الساحة العربية برنامجا يتفقان في الهدف؟ محو التخلف، ويفترقان في الغاية: الأصالة بالمحافظة على الموروث، أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك. الواقع أن كل برنامج بقي حتى اليوم مجرد دعوى. ولم يخرج أي منهما إلى حيز الوجود”[67]. والنتيجة المترتبة عن غياب الوعي التاريخي، عند الإصلاحيين العرب بمختلف أصنافهم، هي ‘التبعية وعلى كل المستويات؛ فـ “فمن طبيعة الانتقائية أن تفتح الباب لكل المؤثرات الخارجية. والفكر التقليدي لا يقل عنها خضوعا”[68].
تتحدد التبعية عند العروي باعتبارها مظهرا من مظاهر الاستلاب الثقافي والحضاري: ”السلفي يظن أنه حر في فكره، لكنه في الواقع لا يفكر باللغة العتيقة وفي نطاق التراث بل إن اللغة والتراث هما اللذان يفكران من خلال فكره. أما الانتقائي فإنه غالبا ما يفكر في نطاق الثقافة التي استقى منها معلوماته وباللغة التي استعملها لذلك. فتغيب عنه تماما مشكلات اللغة العربية والثقافة التقليدية”[69].
وينجم عن التبعية، سواء أكانت ظاهرة أم خفية، العجز عن إدراك الواقع كما هو. مما يؤدي إلى تعميق مظاهر التأخر ومضاعفة مستوياته: ”التبعية الظاهرة والخفية لا تعني فقط عدم الاستقلال والاستغلال، بل تعني كذلك تعميق واستمرار التأخر التاريخي”[70]. يؤكد ذلك واقع بعض الدول التي أرادت الخروج من شرنقة التخلف عبر التعاون مع الغرب. وقد كانت نتيجة ذلك ارتفاع معدلات الإنتاج والدخل ظاهريا، لكن التخلف ظل واقعا على المستوى الإنساني والاجتماعي والفكري. وما يزيد في تعميق الأزمة أن ”السلفي الانتقائي لا يعيان حتى التبعية التي يعيش فيها ويمهدان لها الطريق على الدوام”[71].
يبدو العروي مقتنعا بفساد أطروحات المشروع الإصلاحي الذي يتبناه ويدافع عنه كل من المثقف السلفي والمثقف الانتقائي. ولذلك دعا إلى ”إبداع اتجاه ثالث مبني على التجربة والمخاطرة. لكن يجب ألا ينحصر هذا الاتجاه في البحث عن خاصيات قوميتنا والتعبير عنها لأن ذلك انزواء وفلكلورية. الخاصية ليس معناها حتما الرفض والمغايرة. ليس من الضروري أن نبدأ برفض أشكال الثقافة المعاصرة بل يمكن ويجب أن ننطلق منها محاولين تعميقها وتوسيع نطاقها مظهرين أن هذه الثقافة التي تدعي العالمية ليست عالمية تماما. تنقصها تجربة هي تجربتنا التي إن نجحنا في تشكيلها ستكسب مدلولا عاما”[72].
يحتاج توطين الحداثة في المجتمعات العربية إلى ثورة شاملة تمكن العرب من تجاوز النظرة المسحورة إلى العالم والتسلح بدلا من ذلك بالوعي التاريخي؛ فهو “مقياس المعاصرة”[73] والأداة التي تساعد على منجزات الحداثة واستيعاب مكتسباتها. وإذا لم يتحقق ذلك فليس أمام العرب سوى استمرار الهزائم والنكسات التي من شأنها تعميق مظاهر التأخر الحضاري ”قد يتقدم المجتمع العربي بصورة ما. قد يحرز بعض الانتصارات حتى لو استرسل في طريقة الحالي، إلا أنه سيقتحم الحاضر والمستقبل ظهريا مدفوعا مرغما وأعينه محدقة في الأصل المتباعد تحت قيادة القوى المسيطرة حاليا، فيعيش حياة ازدواج وانفصام دائمة في ظل نكسات متوقعة”[74].
لقد مثل الفكر التاريخي مدخلا ملائما لإنجاز التحول المرتقب وتجاوز مظاهر التأخر التاريخي: ”علينا أن نقول بكل صراحة إن المجتمع الذي يتمشى على ضوء النظرة التاريخانية يسود العالم. ولم يستطع أي مجتمع كان المحافظة على مقامه وحقوقه إلا بالخضوع للمنطق الجديد. أما الوفاء لرؤية خصوصية بدون أدنى أمل في تعميقها وفرضها على الغير فإنه لا يؤدي إلا إلى كلام غير مسموع. الوعي التاريخي هو منطق العمل والإنجاز”[75].
وقد اعتبر العروي أن اكتساب وعي تاريخي وحده كفيل بتحرير الفرد العربي من الضياع في المطلقات والذوبان في التراث. هذا هو المدخل الضروري لكل إصلاح حقيقي: “إذا انطلقنا من الشعور الملح والمؤلم بالإصلاح؛ أي التجديد حقا؛ أي الهدم والبدء مجددا، فإننا نخضع لما هو مبطن في المفهوم من إبداع وإنشاء، من مبادرة وإقدام. ننطلق مرغمين من قضايا ملموسة، قضايا الحرب والاقتصاد والتربية والأسرة والسياسة. وهي كلها مكونات لمفهوم أعم هو مفهوم التاريخ”[76].
إن التوجه إلى الماضي يجعل المثقف منفصلا عن مشكلات الواقع وأسئلة الحاضر، لأن الفكر التقليدي ”لا يتحدد بأحكامه العينية بقدر ما يعرف بمنهجه المبني على أن الحقيقة موجودة كاملة في مكان ما وفي زمن ما. يكشف عنها من حين إلى حين ودفعة واحدة”[77]. ويترتب عن ذلك أن المثقف التقليدي ينفصل عن محيطه ولا يكون له تأثير في مجتمعه: “المثقف عندنا لا يتحرر فعلا، فلا يعين مجتمعه على التحرر لأنه ينفصل دائما عن المحيط الذي يعيش فيه وينتقل إلى عالم ماض يجعل منه الحقيقة المطلقة”[78].
في مقابل ذلك يدرك الفرد، الذي اكتسب وعيا تاريخيا، أن الإنسان هو صانع التاريخ كما يقتنع بأن التطور التاريخي يسير في اتجاه واحد (من الماضي إلى المستقبل). وبذلك يصبح الفكر التاريخي أداة للتقدم والتطور (طفرة واقتصاد الزمن) لأنه يعطي للعمل منطقا ومفعولية، لأن ”الفكر التاريخي هو الذي يحرر المرء من الأوهام ويوجهه نحو الواقع والإنجاز”[79].
لقد مثل الفكر التاريخي بالنسبة إلى العروي ”مقياس المعاصرة”[80] لأن التحرر من أوزار الماضي لن يتحقق إلا إذا اكتسب العرب وعيا تاريخيا ومن دونه ”تغرق كل فكرة في بحر الحاضر الدائم، أي ترجع إلى أرضية الفكر السلفي”[81]. ولذلك نظر العروي إلى التاريخانية بوصفها الوسيلة المثلى التي تمكن العرب من تجاوز حالة التأخر الحضاري، فقد ظل السؤال الأهم بالنسبة إليه هو ”كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات اللبرالية قبل (وبدون أن يعيش مرحلة اللبرالية)”[82]. وقد أكد داعية التاريخانية أن استيعاب مكتسبات الحداثة كما بلورها الغرب الحديث سيظل على رأس جدول أعمال الفكر العربي المعاصر مهما طال الزمان[83].
3- الماركسية الموضوعية:
يتميز العروي، بين أقرانه من المفكرين العرب المعاصرين، بامتلاكه شجاعة الاختيار والحسم. فقد اختار الماركسية الموضوعية باعتبارها نظاما فكريا متكاملا مثل بالنسبة إليه أداة استراتيجية ضمن برنامج إصلاحي مرحلي يتيح للعرب تمثل أصول الحداثة واستيعاب أسس المعاصرة. فقد قرر العروي أن تأمل واقع المثقفين في العالم الثالث من شأنه أن يجعلنا نقر بأن ”النزعة التاريخية (أو التاريخانية بتعبير أدق) أي فرضية التاريخ كاتجاه واحد وكمعنى هي التجربة الأولية في ذهن المثقف العالم الثالث، رغم كل ما يدعيه هو ورغم ما يقال عنه، فلا يظهر وعي ونشاط وحيوية في مجتمع مغلوب على أمره ومسيطر عليه أو على أقل تقدير محتقر ومهمل، إلا وظهرت النزعة التاريخانية. بدونها يهيمن الخضوع ويبرز الاستسلام”[84].
لقد أعلن العروي هذا الاختيار ودافع عنه في مواضع عديدة من مصنفاته. يقول: ”لا أقول إن الماركسية التاريخانية هي لب الماركسية وحقيقتها المكونة، وإنما أكتفي بتسجيل واقع والتقيد به. وهو أن الأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية إلى تلك الماركسية بالذات لتكوّن نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويغذي نفسه بنفسه”[85].
تمثل الماركسية اختيارا استراتيجيا على مستوى الواجهة الثقافية، لأنها تجسد البعد الإرادي في الفلسفة التاريخانية (فكر وعمل). وهو البعد الذي يلح على ضرورة نقل الفكرة من مجرد القناعة الفلسفية العامة إلى مستوى الانخراط الفعلي في العمل والانجاز. ولن يتأتى ذلك في نظر العروي بالنقل المقلد للنظرية الماركسية بل يتعين تعريب أفكارها: ”لن تكون الماركسية معربة إلا إذا طبقت كمنطق ضمني في أبحاث وتحليلات جديدة وجدية حول ماضينا وحاضرنا (…) وتكثر هذه الأبحاث إلى حد يستوعب المجتمع العربي المنطق العربي المنطق الماركسي كأداة فعالة في توضيح ماضيه وحاضره”[86].
يرفض العروي النقل المقلد للماركسية ويدعو بدلا من ذلك إلى تعريبها لغويا وثقافيا ”إن الماركسية أو بعبارة أدق الإيديولوجيا القومية المعاصرة للأحوال العالمية، التي لا تختصر في مبادئها المبسطة بل تنحل في منطق أبحاث تاريخية واجتماعية كبرى، ستذيع في المجتمع العربي، عن طريق الأبحاث، مفاهيم النفعية والليبرالية والتاريخانية. وستشارك في ذلك بأوفر قسط في بعث منطق سياسي في بلادنا. ومن هنا ضرورة تعريب الماركسية لغويا وثقافيا”[87]. ولذلك كانت الماركسية، التي يدعو العروي إلى اعتناقها، هي التي ”تنشأ وتتلون بأوضاع الأمة العربية”[88].
ينظر العروي إلى الماركسية باعتبارها نظاما فكريا عاما يمتلك القدرة على تحديث ذهنية الأفراد بما يقود إلى تنوير وترشيد العمل السياسي وبالتالي تغيير وتطوير المجتمع، لأن فكر الحداثة يتركز بشكل أساس على قيمة الحرية والاستخدام الأقصى للعقل بمفهومه النقدي ومنح الفرد مكانة متميزة داخل المجتمع في إطار دولة حديثة تشكل نظاما عقلانيا يتولى تدبير الشأن العام استنادا إلى مشروعية أرضية تمثيلية. ذلك أن ”الديمقراطية كنظام مدني تقتضي أن لا أحد في المجتمع يملك الحقيقة السياسية (أي ما يصلح وما لا يصلح لخير وسعادة ونمو المجتمع) بل إن تلك الحقيقة تتكون شيئا فشيئا عن طريق المناقشة المتواصلة ومحاولات إقناع البعض الآخر. وأخيرا الاقتراع كوسيلة لإثبات حقيقة توافقية يصطلح عليها مؤقتا في انتظار نتائج التجربة وتغيير الأوضاع”[89].
تشكل الماركسية، في نظر العروي، مدرسة للفكر التاريخي الذي يرسخ الوعي بنسبية التأخر ويغذي التفاؤل بإمكانية تغييره وتجاوزه. ويتيح ذلك للفرد العربي الاقتناع بقدرته على الفعل وإمكانية ممارسة التأثير الايجابي في محيطه وواقعه، حيث يترسخ في فكره ووجدانه أن الماركسية ”نظام فكري عام لتحديث ذهنيتنا وبالتالي عملنا السياسي وبالتالي مجتمعنا”[90]. ولذلك دعا العروي إلى ”ضرورة تبني الماركسية التاريخانية لخلق مجال ثقافي تتوحد فيه جماعة تكون فيما بعد نواة حركة تحديثية جديدة في المجتمع العربي”[91]. وبذلك تغدو الماركسية أداة لتحقيق التحول السياسي والاجتماعي المرتقب. إنها ”النظام المنشود”[92] الذي يتيح للعرب فهم منطق العالم الحديث وتمثل بنيته الكامنة مجسدة في المنطق الديمقراطي الليبرالي. ومن دون ذلك سنظل ”تلاميذ بلا نباهة (في) عالم شيد بجوارنا وربما على أرضنا نستلذ به ولا نتوصل إلى نواميسه”[93].
لقد مثل القول بـ “ضرورة اللجوء إلى الماركسية كمتطلب ذهني عمومي”[94] أساس الدعوة الإيديولوجية التي عمل العروي على ترويجها والدفاع عنها. إنها البديل الفكري المقترح الذي يمكن المجتمعات العربية من تجاوز حالة التأخر التاريخي: ”إن التجارب بدأت على أساس فهم تاريخاني للماركسية. وتمكنت من خلق نخبة مثقفة ثورية أي متحررة من أوهام الماضي، ثم كونت تقليدا ثوريا قوميا تتلمذت عليه جماعات إثر جماعات. تفرقت بعد ذلك في مختلف دروب الحياة وعملت في ميادين متعددة على نشر أشكال الذهنية العقلانية. ونجحت أخيرا في دفع مجتمعها عن طريق ثورة ثقافية إلى أبواب العصر الحديث”[95].
من الواضح أن العروي يصدر عن وعي ثقافي يؤمن بواحدية التاريخ البشري وكونيته. ولذلك اعتنق التاريخانية من أجل تجنب المأزق الذي سقط فيه بعض الحداثين العرب الذين رفعوا شعار العقلانية ونادوا بضرورة تجاوزها في ذات الوقت. ومن هنا مثلت الماركسية بالنسبة إليه ”النظام المنشود الذي يزودنا بمنطق العالم، لأننا نعيش أطوار العالم الحديث المتتابعة ولم نستوعب بنيته الكامنة (أي المنطق الديمقراطي الليبرالي)”[96]. وقد ذكر العروي أن دعوته إلى اعتناق الماركسية قامت ”على أساس المنفعة لا عن طريق التعليل المجرد”[97]، كما أقر بأن حماسه للماركسية يصدر عن نزعة براغماتية تعود إلى تصور خاص لمنطق العمل والتصرف مقابل منطق التأمل[98]. ويظهر ذلك بشكل واضح في تسمية العروي لماركس الذي يستلهم تراثه بـ “ماركس النافع”[99].
4- البعد الكوني للحداثة:
يتطلب توطين الحداثة في المجتمعات العربية الاستفادة من نتائج التحديث التي راكمتها الإنسانية في كفاحها ضد التخلف. وهو ما أطلق عليه العروي ”المتاح للبشرية”[100] الذي يتحدد عنده باعتباره الأفق المستقبلي والأنموذج الكوني الذي يتعين على المجتمعات العربية احتذاءه والسير في اتجاهه. فقد تشكل المشروع الإصلاحي الذي بلوره العروي من تنظير فلسفي بني على المبادئ الأربعة الآتية[101]:
1- ثبوت قوانين التطور التاريخي.
2- وحدة الاتجاه.
3- إمكانية اقتباس الثقافة.
4- إيجابية المثقف والسياسي.
استنادا إلى هذه المبادئ وفي إطارها فكر العروي في واقع التأخر العربي وقدم مقترحاته التي تساعد من وجهة نظره على تخطي عوائق الحداثة: ”الدور التاريخي الغربي الممتد من عصر النهضة إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي شيدت على ضوئها السياسات الثورية الرامية إلى إخراج البلاد. غير الأوربية من أوضاع وسطوية مترهلة إلى أوضاع صناعية حديثة”[102]. ولذلك دعا العروي إلى الاستفادة من دروس الحداثة الغربية رغم السلبيات التي يمكن أن يطرحها هذا الإجراء: ”المطلوب من المثقف أن يرفع في وجه ممثل الثقافة الأصيلة وما يترتب عنها من أنظمة وهياكل اجتماعية وسلوك، راية الثقافة التي تفتح أبواب التقدم رغم ما فيها أيضا من سلبيات، لأن التشبث بمقولة الأصالة نكاية في الغرب الامبريالي يعني في الظروف القائمة تعاميا عن الواقع وتنكرا للمستقبل”[103].
يؤمن العروي بواحدية التاريخ البشري. ولذلك لم يتردد في الدعوة إلى التعلم من دروس الحداثة الغربية ”ذات يوم خرجت أوربا البشرية من أوربا الجغرافية واستولت تدريجيا على سائر البسيطة. ليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الدهشة إذ سبقت شعوب أوربا في هذا الميدان شعوب كثيرة في القارات الأخرى (…) ثم تحولت صورة السيطرة الأوربية مع اكتمال الثورة الصناعية في أواسط القرن الماضي. حدت الأرض باكتشاف جميع أطرافها وتقاسمتها الدول الأوربية. حينئذ تكلمت أوروبا عن آسيا النائمة والشرق المحنط وتركيا المريضة وتلوثت علاقات أوربا بغيرها بلون خاص يمتزج فيه العنف والإقناع والتهديد وتتلمذت الشعوب تباعا لأوربا”[104].
لقد اقتنع العروي بأنه يتوجب على العرب استيعاب مبادئ الحداثة الغربية وتمثل مكتسباتها في الفكر والعمل لكي يتمكنوا من المساهمة في إغناء وتطوير الحضارة الإنسانية. ومن هنا قوة وأهمية الدعوة الإيديولوجية التي بلورها العروي ومثلت بالنسبة إليه خطوة ضرورية في درب التحول التاريخي. فقد لحظ كمال عبد اللطيف أن أهمية المشروع الفكري لعبد الله العروي ”تأتي من البعد الراديكالي الذي يروم بلوغه بدفاعه عن ضرورة التعلم من دروس الحداثة الغربية. إنه لا يهادن وهو يدعو في نصوصه إلى التخلص من أوزار الماضي العقائدية والفكرية لمصلحة حضارة يعتقد بمكوناتها المستقبلية بناء على حسابات ومؤشرات واقعية”[105].
لقد برز العروي بوصفه واحدا من أهم المفكرين الذين عبروا بوضوح عن حاجة المجتمعات العربية المعاصرة إلى العقلانية بقطع النظر عن الانتقادات التي وجهت إليها في الغرب: ”لا يجب تحديد العقلانية بكيفية مجردة فلسفية (…) بل يجب استقراؤها من التطور التاريخي، من الظروف الواقعية التي تمكنت فيها مجتمعات معينة من التقدم والازدهار”[106].
وقد بنى العروي دعوته الإيديولوجية على أساس تصور محدد للتاريخ الذي جعل من أوربا المركز الأقوى والمسيطر بعد أن حققت ثورتها السياسية والصناعية ووضعت أسس العلم الحديث.
خلاصات وآفاق:
1- إن عودتنا، في هذه الدراسة، إلى أعمال عبد الله العروي لم تتم بغرض الإحاطة الشاملة بعناصر مشروعه الفكري بقدر ما توخينا إعادة بناء وتركيب أهم الإشكالات التي خاض فيها من أجل لفت الانتباه إلى أطروحاته المؤسسة على المستوى النظري والتنظيري. وذلك في أفق الدعوة إلى فتح نقاش واسع حول مجمل الآراء التي قدمها هذا المفكر في دراساته وأبحاثه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن محاورة أفكار ومقترحات العروي ينبغي أن تكون بعيدة عن التناول التبجيلي، لأن خير تقدير لجهوده الفكرية، القراءة النقدية الواعية لأعماله من أجل اختبار مدى سلامة إجاباته عن الأسئلة المربكة التي تطرحها اللحظة المغربية والعربية الراهنة. فقد مثلت مؤلفات العروي، من هذه الناحية، جهدا فكريا متميزا أسهم بصورة فعالة في صياغة الملامح البارزة لنظرية الإصلاح ومشاريع التطوير والتحديث في الوطن العربي.
2- لقد توخت هذه الدراسة مساءلة المنجز الفكري الذي بلوره عبد الله العروي خلال مسار ثقافي حافل. وذلك بغرض تقديم الخطوط العريضة لمشروعه الثقافي بما يمكن من إعادة بناء أطروحته المركزية ممثلة في الكشف عن أسباب التأخر التاريخي الذي ظل سمة ملازمة لواقع المجتمعات العربية ومساعدتها على الانخراط في حركة التاريخ الكوني. ولذلك مثل سؤال الحداثة وسبل التحديث الخلفية الناظمة باجتهادات العروي التي انتظمت في صيغة تركيب منهجي رسم خلاله العروي الخطوط العريضة لمشروع فكري طموح أراد له صاحبه أن يكون بمثابة حافز على التفكير في موجبات الإصلاح السياسي والثقافي بوصفه المدخل الملائم لاستيعاب أصول الحداثة وتمثل أسس المعاصرة.
3- تميز مشروع العروي بجرأته في الدعوة إلى اجتثاث الفكر السلفي والمنزع التوفيقي من محيطنا الثقافي. وذلك ضمن خطة تروم تشخيص مفارقات الوعي العربي من خلال نقد الأطروحات الإيديولوجية العربية المعاصرة باعتبارها خطوة ضرورية لانطلاق تحديث المشروع المجتمعي الذي دعا إليه العروي وصاغ ملامحه الرئيسة انطلاقا من رؤية فكرية تأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع ووقائع التاريخ، حيث تظهر المعاينة الدقيقة لكتابات العروي أنه يوظف أدوات منهجية وإجرائية تعود إلى حقول معرفية متنوعة ساعدته على صياغة خطاب استدلالي متماسك حول حاضر العرب ومستقبلهم، حيث يتداخل في دراسات العروي ”البحث التاريخي” و”التحليل السياسي الاجتماعي” و”التوضيح الإيديولوجي”[107]. وقد مكنته هذه المنهجية التحليلية من تشخيص مفارقات الوعي العربي التي مثلت، بالنسبة إليه، حاجزا معرفيا يحول دون تحقيق النهضة الحضارية المنشودة.وقد شكلت هذه الغاية البعيدة عصب المشروع الفكري الذي بلوره العروي لكي يمثل مقترحا بديلا للمشاريع التي أنتجها دعاة الإيديولوجيا الإصلاحية في الوطن العربي. ومن هنا مثلت أعمال العروي لحظة تدشين وانطلاق التفكير النقدي العميق الذي يشتبك مع الواقع ويدعو إلى تغييره وتطويره من خلل الدفاع عن قيم الحداثة والعمل على تأصيلها في المجتمعات العربية انطلاقا من مرجعية فكرية تتجه إلى بلورة تصورات جديدة فيما يخص إصلاح المجال السياسي وتطوير الحقل الثقافي.
د. مصطفى الغرافي – باحث من المغرب
………………………….
[1]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط1 – 1996 ص: 14.
[2]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، البيضاء،ط 5- 2006 ص: 70
[3] – عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 357.
[4]- نفسه، ص: 364.
[5]- نفسه، ص: 357.
[6]- – “الكتاب بني كله على واقع القطيعة وقبولها كمسلمة” – مفهوم العقل ص: 358
[7]- عبد الله العروي، مفهوم العقل ص: 19
[8] – نفسه، ص: 163.
9 – نفسه، ص: 360.
10- نفسه، ص: 359.
11- نفسه، ص: 361
[12]- نفسه ص: 56
[13]- نفسه ص: 102
[14]- نفسه، ص: 69.
[15]- نفسه ص: 358.
[16]- نفسه ص: 363.
[17]- نفسه ص: 364.
[18]- نفسه ص: 363.
[19]- نفسه ص: 362.
[20]- نفسه، ص:17
[21]- نفسه، ص: 152.
[22]- نفسه، ص: 152.
[23]- نفسه، ص: 97.
[24]- نفسه، ص: 164.
[25]- نفسه، ص: 358.
[26] – نفسه، ص: 101.
[27]- نفسه، ص: 358.
[28]- نفسه، ص: 10.
[29]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 22.
[30]- نفسه، ص: 63.
[31]- عن التقليد والتخلف التاريخي، حوار العروي وعبد العزيز بلال ومحمد جسوس، مجلة لاماليف ع: 64 – 1974 نقله إلى العربية محمد بولعيش ومصطفى المسناوي، نشر في بيت الحكمة ع:1- 1986 ص: 167.
[32]- نفسه، ص: 142.
[33]- نفسه، ص: 163.
[34]- نفسه، ص: 163.
[35]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 10.
[36]- من التاريخ إلى الحب، حوار أجراه محمد الداهي مع عبد الله العروي، كتاب مجلة الدوحة ع 73 – 2013 الكتاب رقم 29، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر ص: 68.
[37]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 62.
[38]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 363.
[39]- نفسه، ص: 66.
[40]- نفسه، ص: 67.
[41]- نفسه، ص: 67.
[42]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 95.
[43]- نفسه، ص: 20.
[44]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 25.
[45]- نفسه، ص: 102.
[46]- نفسه، ص: 101.
[47]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 17.
[48]- نفسه، ص: 220.
[49]- عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، البيضاء ط 2- 1999 ص:39
[50] – عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 205.
[51]- نفسه، ص: 59.
[52] – نفسه، ص: 61.
[53]- عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط 6- 2002ص: 161.
[54]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 43.
[55]- نفسه، ص: 224.
[56]- نفسه، ص: 93.
[57]- نفسه، ص: 108.
[58]- نفسه، ص: 114.
[59]- نفسه، ص: 18.
[60]- عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط6- 1998 ص: 5.
[61]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 15.
[62]- نفسه، ص: 15.
[63]- نفسه، ص: 12.
[64]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 61.
[65]- العرب نفسه، ص : 207.
[66]- ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص: 199.
[67]- عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص: 202.
[68]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 206.
[69]- نفسه، ص: 208.
[70]- نفسه، ص: 206.
[71]- نفسه، ص: 207.
[72]- نفسه ص: 114.
[73]- نفسه، ص: 68.
[74]- نفسه، ص: 25.
[75]- نفسه، ص: 61.
[76]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 361.
[77]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 42.
[78]- نفسه، ص: 68.
[79]- نفسه، ص: 207.
[80]- نفسه، ص: 68.
[81]- نفسه، ص: 68.
[82]- نفسه، ص: 45.
[83]- نفسه، ص: 17.
[84]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 174.
[85]- نفسه، ص: 68.
[86]- نفسه، ص: 161.
[87]- نفسه، ص: 166.
[88]- نفسه، ص: 66.
[89]- نفسه، ص: 94.
[90]- نفسه، ص :76.
[91]- نفسه، ص: 69.
[92]- نفسه، ص: 63.
[93]- نفسه، ص: 63.
[94]- نفسه، ص: 73.
[95]- نفسه، ص: 73.
[96]- نفسه، ص: 63.
[97]- نفسه، ص: 63.
[98]- عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط2- 1999 هامش48 الصفحة 168
[99]- التحديث والديمقراطية، حوار العروي مع مجلة آفاق المغربية، ع 3- 4، 1992صص: 157
[100]- عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 70.
[101]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 260.
[102]- عبد الله العروي، مفهوم الايدولوجيا، المركز الثقافي، البيضاء، ط 5 – 1993، ص: 125.
[103]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 22.
[104]- عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص: 155.
[105]- كمال عبد اللطيف، الفكر الفلسفي في المغرب، إفريقيا الشرق- المغرب 2003، ص:147.
[106]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، هامش الصفحة 18
[107]- التحديث والديمقراطية، حوار العروي مع مجلة آفاق المغربية، ع 3- 4، 1992ص: 149.