وفي ما يلي وقائع الحوار:
«المحرر»
* يستدعي الكلام على أزمة حضارةٍ في الغرب المعاصر، كلاماً موازياً عن أزمة الفلسفة باعتبارها بنيةً مؤسِّسةً لهذه الحضارة. إلى أيّ مدى يمكن الربط بين طرفَيْ هذه المعادلة انطلاقاً من العلاقة الوطيدة التي ينسجها التاريخ الإنساني بين الفكر والحدث؟
– إنّ الموضوع يرتبط بشكلٍ وثـيـقٍ بمعضلة حضارة الغرب المعاصر التي ـ نظـراً للإشـكالـيّـة المطروحة للبحث ـ تبدو متأزّمةً، علماً أنّها وليدة فلسفةٍ حديثةٍ أضفت عليها إمكان امتدادها إلى خارج حدود نشأتها، وإمكان تقاطعها مع مساراتٍ فلسفيّةٍ أخرى، وانعكاسها على ذهنيات تنتفض في أكثر من موقع على مساحة القرية الكونيّة.
ولمّا كان مجال الاهتمام ينحصر في السؤال أوّلاً عن أزمةٍ في حـضارة الغرب المعاصر توازي أزمة الفلسـفة، التي هي في صلب تأسيـس هذه الحضارة، وثانياً، معرفة إلى أيّ مدى يمكن الربط بين طـرفي هذه المعادلة استناداً إلى العلاقة الوطيدة والتاريخيّة بين الحدث والفكر، وجدنا، في الواقع، أنّ الغرب، قديماً، ومعاصراً، ليس بغريب، في ما يعيشه، وينمو فيه، ويتطوّر، أو يتدهور، عن سـائـر الأمم المفكرة، في ركيزتين أساسيتين في مجتمعاتها، وهما الفلسفة والدين، وإن شئت الفلسفة السياسيّة والدين.
ما لا شـكّ فيه أنّ الحدث يكوّن رَحِم الإنتاج الفكـري، ويقـذف بالنــّور العقلاني؛ ليعمل في الحدث، لينقّب عن مسبّباته، وليتبيّن ما نجم منه، فتلد من العملية التفتيشية في دوافع الحدث، وفي نتائجه، فكرة، وهذه الفكرة تكـون الجديد، وتشـكّـل ما يصـبح معـروفاً بمسـلك التغييـر، بالنّظـر إلى ما تـفرزه الفكـرة الخارجة من تطاحن العقل مع العقل، أولاً، ومع الدين بذاته، ثانياً، ومع التقاليد بما هـي عليه، ثالثاً، ومع الموروثات المتنوعّة والمتفاوتة، والمحفورة في النفوس كما النقش في الحجر، رابعاً.
وعلـيـه، فـمن حــقّ هذا الواحـد المفـرد فـي مقابـل الوجوه الأخرى، أي من العقل فـي تحـدّيـه المخـزون المجتمعي المتوارث والمتهالك، كما كانت الحال بالغرب، تمخّض التفكير الغربي عن ولادة الحداثة…أو قُل الفاتحة لعصـور تغييـر فـي البـدء، ولعصـور تحـوّلات فـــي ما بعد، وصولاً إلى ما يعرف اليوم، خصوصاً، منذ توسع العولمة واستقرار النّظام العالمي الجديد، بأمبراطورياته الاقتصاديّة والإعلاميّة والتكنولوجيّة والعلميّة الفاجرة، بالأزمة الحضاريّة الغربيّة المعاصرة.
* يذهب عددٌ من المتخصّصين بتاريخ الفلسفة إلى أنّ المشكلة التكوينيّة للتفلسف الحديث يعود إلى اليونان وتحديداً مع البناء الأنطولوجي للفلسفة الذي وضعه أرسطو، خصوصاً لجهة حصر مهمّة الفلسفة بالسؤال عن الموجود بما هو موجود، والاهتمام بالظواهر التي جرى تأصيلها عبر منطق المقولات العشر.. كيف تُعلّقون على ذلك؟
من يُقارب المسار التاريخي بشكلٍ دقيقٍ وموضوعيٍّ، ويسعى إلى المعرفة من غير مواربةٍ، ومن غير اصطدامٍ عقائديٍّ، يرى أنّ الغرب المسيحي بعامّة، والكاثوليكي بخاصّة، عاش طويلاً، ولقرونٍ، في مناخات التحالف السياسي الديني: الملك هو رأس السّلطة، والبابا هو الذي يكـرّس هذه السّلطـة، ويباركها علـى أنها ظلّ الله علـى الأرض، ويرميها بالحـرم عندما لا تدور الأشياء بانتـظـام وانسـجـام فـي فلك هذا التحالف القائـم قسـراً، والذي، فـي ظنـي، ليـس هدفاً مسيحياً فـي الجــذور المسيحيّة، بقدر ما هو استنسـاخ لكثـيـر من تقاليد الشعوب الغربيـة التـي اعتنقت المسـيحية، وهذا مـا يحدث للفاتحيــن، فـغالباً ما يتدثّرون بثـوبٍ سميكٍ مـن عـادات وطـبائع الأمم أو البلدات أو المجتمعات التي يُخضعونها لسلطتهم. وانطلاقاً من تحديد أوّليٍّ للأمور نستخلص أن (الدين) بالمعنى العريض، وليس بالمعنى الدقيق للكلمة، استخدم، في زمن نشأة الممالك والإمبراطوريات المسيحية، سلاحاً أو وسيلة تستقطب بها السلطات أسباب الحرب، وأسباب التفرقة، والقمع، وتوزيع الغفران، وتجويع الناس، وإنزال العقوبات، إلى جانب الكثير من ظلم الدين والإنسان في آن … هذا عدا نظام الطبقات العليا والدنيا، وغياب العدل والإنصاف ومخافة الله.
ولمّا كان الاستبداد اللاَّهوتي والسياسي بلغ أوجّه، وسقط ما سقط من مسيحيين يتناحرون في ما بينهم على قاعدة الكثلكة والبروتستانتية، بدأت براعم التعقل في الغرب تظهر ـ وكان الغرب قد بلغته الحضارة الإغريقية عن طريق الحضارة العربية الإسلامية عبر ما تمّ ترجمته من فلسفة، وعلم منطق، وما تمّ الاجتهاد فيه في عواصم الخلافات الإسلامية المتعاقبة – تشق طريقها بشكل مثير للغاية. ولئن كان هذا التعقل الحديث معتقلاً في دائرة الفكر الإغريقي القديم، فهذا لا يعني أنه لم يكن غربياً خالصاً، ولم يكن ممزوجاً بمسيحية متغربة، وإن شئت فقل، هذا لا يعني أنّه لم يكن مستقلاً وثائراً ومنحازاً لحنين نوستالجي لما قبل المسيحية.
فديكارت يطيح بالحاجة إلى معلمّ، ويتفلَّت بكلّ وعيٍ وإقدامٍ وقناعةٍ ممّا علّمه إياه السابقون من اللاهوتيين الفلاسفة، أرباب العصور القروسطية، ويستعيض عن هذا المخزون بالكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذاً أنا موجود) ويشطب بعبارةٍ ابتداعيّةٍ، ما نزل على الناس من حقائق، ويسلّم بسيادة العقل للبحث عن الحقيقة وبالاختبار العلمي لتبيانها، ويفتتح عهداً من الصراع بين العقل والدين دام طويلاً حتى بلغ، ربما ما لم يكن ليقصده ديكارت، إسقاط الله في الساحة العامة الغربية، وإقامة (الإنسان الإله) ، القادر على ذاته، المسيطر على حياته، المتنطح علماً وتجربة، وفاتح عصور الدخول في الذاتية والإنية الوثنية والنزوح عن الجماعة، عبر تكريس الإنسان/الفرد كبديل للإنسان/النحن، ولا يخفى على أحد ما نتج لاحقاً، من تحوّلات فكريّة نتيجة لأحداث تاريخيّة هنا وهناك، في الغرب الحديث والمعاصر، قضّت، في مراحلها الأولى، على الدين، ونجحت، إلى حدّ بعيدٍ، في فصل الدين عن الدولة، وأرست نظاماً سياسياً علمانياً قائماً على منظومة فلسفية عقلانية، لم يلبث أن أصبح كونياً، موضوعه الإنسان/ الفرد، وركيزته تحكيم العقل المتحرّر فلسفياً من كلّ قيد أو شرط؛ واستبدال مدينة الله بمدينة القانون والحق، والعمل الحثيث على إنتاج الثورات، وبلوغ ما يجب التوصّل إليه في التخطيط العقلاني، وإن لم يكن بوسائل الحوار فلم لا بوسيلة الشغب.
* ألا ترون أنّ مهمّة العقل آلت إلى تقييده بالمحسوسات باعتبارها معقولاتٍ واقعيّةً، وترتّب على ذلك الإعراض عن الإيمان الديني، ونشوء الظاهرة الإلحاديّة واستشراء العلمنة الحادة في المجتمعات الغربية؟
إنّ الهدف الأسمى للفلسفة الحديثة هو بناء الإنسان الذي يتمتّع بجدية التفكير، وحريّة التعبير من غير أن يشعر أنّه مهمّشٌ وسط مجتمعه الأصيل بسبب انتمائه إلى أقليّة دينيّة حوّلته إلى غريب في بيئته، هذا عدا الحروب الدامية بين أبناء المجتمع الواحد بسبب الاختلاف المذهبي في صميم الدين الواحد.
إذاً، الفلسفة الحديثة أسسّت مبدئياً لإنسان منفصلٍ عن منظومة الأمس، وأسّست لمجتمعٍ مدنيٍّ علمانيٍّ، كما أوصدت الأبواب في وجه الإنسان الديني، وبالتالي، في وجه استخدام الدين واستغلاله في المسائل السياسيّة والقانونيّة؛ واستبدلت المنظومة التقليديّة القائمة على الحق الإلهي بالمنظومة الإنسانوية القائمة على حقّ الإنسان.
وهكذا حصل… وما حصل لم يحدث فقط بالتنظير الفلسفي وحسب، إنّما الفلسفة الحديثة كان لها الأثر الأكبر في ولادة الإنسان الآخر، وتدريجياً في ولادة المجتمع المؤسّساتي.
ومّما لا شك فيه أنّ الفلسفة الحديثة كما المعاصرة كانت توّاقةً إلى الحقيقة، وعابثة، بالتالي، بالمسار التاريخي الحائل دون بلوغ الحقيقة المرجوّة، وهو الذي يبعث فكرة قد لا تتمكّن ببساطةٍ أن تنقضها فكرة أخرى.
وإن كان الشكّ قاعدة شأنه موقفاً عابراً للتاريخ، فهذا يعني أنّ الفكرة يمكنُها أن تثبت الإيجابي والسلبي من الأمور، عن جدارة كما عن غير وجه حقّ. لذا تدّعي الحركة التاريخية وضع حدٍ للحوار اللامتناهي للشك وتستبدله بقضاء التاريخ، ما يعني قضاء من غير قاضٍ، سواء كان الإنسان أو الله.
* ما الفائدة إذن من فكرة ليس لها صاحب، وبالتالي من علّة عاجزة عن إيجاد ناطقها، إنساناً كان أو إلهاً؟
في هذا الصدد أقول: هذا هو التاريخ الذي أوكلت إليه الحركة التاريخية مهمّة طرد الفيلسوف الذي يؤكّد على قدرة الإنسان بلوغ الحقيقة والشكّاك الذي ينكرها. ما يجب أن ندركه هو بالفعل ما نزع إليه فلاسفة الغرب، وقد استمكنوا من التاريخية، فتسلّحوا في البحث عن الحقيقة بالحجج العقلانيّة الموثوق بها، ووجدوها حاسمة، ولم يهتمّوا بشأن التاريخ. وفي هذه اللحظة من البحث ممكن التوقف عند هذه الجدليّة التي تظهر وكأنّ الحدث والفكرة لا رابط بينهما.
قد نقول إنّ الهدف الرئيسي للفكر الغربي الحديث، بصورةٍ خاصّةٍ في مطلعه، هو دحض الفلسفة الكلاسيكية القائمة على حاجة المسافة بين ما يقوم به البشر فعلاً وما يمكن أن يقوموا به إن هم انصاعوا لتعاليم العقل، وما لا يخفى على عاقل هو الانقلاب على موقع العقل في الفلسفة الكلاسيكية، المتموضع بين السبب الأسمى الذي لا يبلغه ولكن ينوّره، وتقلّبات الأفعال وعوامل التاريخ التي يجب أن يناقشها ويحكم عليها. إنّ الفكر الفلسفي السياسي الحديث، في مصادره وأصوله، يندرج في إطار هذا الرفض الكبير. إن اعتمدنا هذه النّظريّة في بحثنا نتمكّن من ولوج أسباب التفكيك والانفصال وتفاصيل شيد العمارة الفلسفية الحديثة والمعاصرة، وإن تضاربت التيّارات الفلسفيّة، إلّا أنّها، مجتمعة، تشكل العمارة الفلسفيّة الحديثة والمعاصرة.
إنطلاقاً من إطلاق الحقّ الطبيعي الحديث مع ماكيافيل، ومروراً بباكون، وهوبس، سبينوزا، وديكارت، ولوك، ومن ثم استناداً إلى إعمال الفكر في أزمة الحق الطبيعي الحديث، وظهور منظومة التاريخ العامل في الفكر ، وقد عمل عليها روسو وكانط، وهيغل، ثم ظهور التاريخية الراديكالية التي ابتدأها نيتشه، وتابعها هايدغر، نستنتج أنّ كلّ هذه الحركة الفلسفيّة الناشطة، استهدفت بشكلٍ تدريجيٍّ وعقلانيٍّ وجدليٍّ، إحقاق التواطؤ بين المنظور (الواقعي) أو (العلمي) وتقديس الحقيقة والمنظور الأخلاقي أو (الاوتوبي) و(تقديس الحق).
وهكذا نشأت منظومة الطاعة عند الضرورة عبر (يجب عليك أن…) لماكيافيل، ومنظومة الحق «في وجه الحقيقة الواقعة» لهوبس، حيث إنّ الإنسان الفرد لا يطيع إلّا ذاته بدون أيّ ضغط يذكر، ومنظومة الإنسان السريع العطب، ولكنّه إنسان مفكّر لباسكال، ومنظومة الإنسان المتفوّق المتجاوز لذاته، القادر أن يصبح ذاته لنيتشه، ومنظومة التنظير الفلسفية للمؤسسة السياسية التي يتجلى فيها نظام وعقل يفوقان بالأهمية وجودياً ما أتت به الفلسفة الموبوؤة الممزوجة بالموهبة والمقدرة على الاستيلاء على السلطة. وهكذا قام الاجتماع الحديث على الأفراد الذين يجتمعون، من جهة، بدافع من حب الفرد بذاته ولذاته، ومن جهة ثانية، وقفاً على مشاركة أو تضامن بقدر ما هو حصيلة المحرّك الرئيسي الاجتماعي، أي الخوف، وهو الرادع الأكبر الذي يحمي الإجتماع الإنساني. ولمثل هذا السبب، تستمد المشاركة شرعيتها وأحقيتها من منظومة استغلال الطبيعة بكلّ مواردها، وهو استغلال مرغوب فيه شرط أن يتمّ بشكلٍ عقلانيٍّ، وبتخطيط منظّم، على صورة تجمّع مجتمعي متقدّم، يخفّف من وطأة العنف المميت لصالح التعقلن والتنظيم والاستفادة.
وتفرز هذه الرؤية الفلسفيّة للاجتماع الإنساني الحديث مصطلح (المصلحة) التي توجب حتماً مشاركة عقلانية وتبادلاً مبنياً على أساس المساواة بين أبناء المجتمع الواحد، واعترافاً بالآخر المختلف، وهو مختلف، في رأيه على الأقل، حتى وإن كان من أفراد مجتمع من لون واحد.
في المحصّلة السريعة نلملم ما استجمعنا من نظريات فلسفيّة شرّعت انطلاقتها من أحداث معاشة، جرت في البيئة المسيحيّة الغربية عبر العصور – وقد تجري في أيّ بيئة أو حاضرة أخرى من غير أن توجب بالضرورة إنتاج الفلسفة عينها – واستدعت إلى إنتاج آراء، ومنها فلسفة وجود، وبفضلها تنظيم حياة مجتمعية، ولعلّ أبرز ما حملته الفلسفة الغربية الحديثة من مضمون، وإن كان قابلاً للنقاش والجدل في أيّ وقت، أنّها أتت بمفهوم مقاربة الرأي الذاتي والرأي الآخر، ومقاربة الأراء المختلفة بالحجّة المقنعة، وتفهّم كلّ ذي صاحب رأي، أنّه، كائناً من كان، ليس وضعه حالة استثنائيّة، إنّما هو وضع يشبه وضع الكثيرين من الذين عندهم آراء، وأفكار، ووجهات نظر، وتختلف عن مجمل آرائه وتطلّعاته، والعكس صحيح…
ويبقى أن نستدرك أنّه، متى تمكّن، انفصال صاحب الرأي عن رأيه، وسار في اتّجاه تفهّم الآخر واحتوائه، تكون الفلسفة الغربية الحديثة قادرة على تعبيد السبُل لإرساء السلم المجتمعي، وإقصاء الخوف من الموت عنفاً على يد الآخرين، وتحرير الإنسان من الغرور والمغالاة في النّظر إلى ذاته، وإيقاظه على هشاشة المفردية، ودفعه إلى الإعتراف بالمساواة بين كلّ البشر…وإلى قبول الناس بعضهم البعض.
وما يستوقفنا في الفلسفة الحديثة الناشئة، والمتقدّمة، أنّها اعتنت، على صواب أو على خطأ، بتكوين سلوك مجتمعيٍّ مرتبطٍ مباشرة بضرورة الاجتماع، وبضرورة الحفاظ على أمن الاجتماع، وأسفرت هذه السلوكية المجتمعية، أو قل هذا العقد الاجتماعي، عن قوّةٍ هائلةٍ تهتمّ بحماية الإنسان المجتمعي، وهذا ما لم يكن متوفّراً بشكلٍ واسعٍ وحقوقيٍّ قبل تفاعل المجتمع مع مقوّمات الفلسفة الحديثة السياسيّة المجتمعيّة.
وفي سياق الأخذ بهذه الفلسفة الحديثة لا يخفى على حذِق أنّها، في إفعال العقل الإنساني، لبلوغ عقد اجتماعي إنسانوي الصناعة، منفصل، بكل جرأة، عن الحقيقة المطلقة، ومعتمد، بكلّ طمأنينة، على فوقيّة العقل الإنساني، قد أبعدت الله عن الاجتماع الإنساني، وأهملت تعاليم كنيسته، وقدّمت العقل البشري وسيلة للحلّ والربط في الوسط المجتمعي، ومدّت المجتمع بفلسفة حياة تصَوّر فيه من يتولّى زمام الحكم على أنّه حاكم يسوس الشعب باللّطف والرعاية والقانون والحكمة؛ بهدف إخراج الاجتماع الإنساني من الخوف الذي انتاب المجتمعات الغربية، والصادر عن تاريخ طويل من الحكم المطلق، واستبداد الملوك الذين لا يخافون قانوناً، ولا يطولهم قانون، ولا يردعهم رادع في الاستيلاء على أرزاق الناس وأرواحهم .
* ما الأثر المترتّب على مثل هذه السيرورة في الحضارة الحديثة؟
في مثل التغيير الفلسفي لصورة الحاكم من مستبدّ إلى راعٍ، تتوارى صورة المجتمع الغربي الديني، المؤمن بالله، وبتعاليم الإنجيل والكنيسة… وتتراجع صورة الإنسان/الفرد، ويحلّ محلّها العقد الاجتماعي الجديد الذي يتفوّق فيه الحاكم على الظلم والإستبداد، ويتجاوز فيه الفرد أسباب التشاجر، ويرتضي المساواة، ويتخلّى عن الافتخار بالذاتية الأنانيّة اللاغية للآخر، ويصبح الاحتكام إلى العقل الوسيلة الصالحة لإيجاد ما يناسب الاجتماع الإنساني، فتنتقي، بالتالي، المنظومة التقليدية القائلة (بظلّ الله على الأرض) ، ويصبح المسؤول عن الاجتماع الإنساني صاحب الضمير المعقلن والواعي لمصلحته كحاكم…ويبدو أنّ مثل هذا التعقّل الواعي لا يتطلّب من الحاكم قدراتٍ فوق الطاقة ولا فضائل استثنائيّة، بقدر ما يجعل منه أداة سياسية شرعيّة لتحقيق السّلطة الإنسانويّة، والالتزام فقط بحاجة المجتمع على أكمل وجه .
ويعني الاحتكام إلى العقل في ما يعنيه: أوّلاً، تسيير شؤون المجتمع عن طريق تغييرٍ جذريٍّ لمفهوم اللا محدود، وانتقاله من صفة إلهيّةٍ إلى صفة إنسانيّةٍ، وارتباطه، بالتالي، بالقانون والشرعية؛ وثانياً، إقناع الإنسان االضعيف، الذي ابتدع اللا محدود الصلاحية بإنقاذه من هواجسه ومخاوفه، ثالثاً، إعادة النّظر في مصير الإنسان عن طريق الآلية العقلانيّة والخلاصيّة في آن. وهكذا فإنّ ما وفّرته الفلسفة الحديثة في الغرب من ارتباطها الوثيق بمسار الاجتماع الإنساني، قيادته إلى اعتبار المأسسة الشرعيّة الحافظة للمجتمع هي من باب الحرص على نزعة البقاء والاستمرار، ودافع للخروج من منظومة العيش في صراع الكّل ضد الكلّ، وعامل إنجاح اللحمة بين المجتمع والحاكم اللذين يشكلان الجسم السياسي الكياني.
* ماذا نستخلص مما سبق؟
بتقديري أن الفلسفة الحديثة خرجت من ورشة الحكم المتحالف مع الكنيسة (الإكليروس)، ومن التداخل بين الإكليريكي والمدني بمفهوم الحكم والاقتدار، أما من ظروف الغموض والفوضى سياسياً، ومن الحياد والنزاهة فكرياً، ومن ثنائية العلاقة الوجدانية: حماية/طاعة، ومن الواقع الإنساني ومفعول الشرائع الدينية على المجتمع، تشكلت عوامل العمل السياسي، وتبوّأ السؤال الحاد، الذي لم يلوِ على زمن ما قبل الحداثة، المشهد الاجتماعي والتفكيري والتغييري، وقلب المقاييس.
* ما الدور الذي قام به الفكر اللاَّهوتي المسيحي في إعادة الاعتبار لمسألة الإيمان، رغم التكيُّف الواسع الذي أجرته الكنيسة الكاثوليكية مع العلمنة ابتداءً من القرن الثالث عشر أي بعد نهاية العصور الوسطى.
لم تكتفِ الفلسفة الحديثة بإنتاج مجتمعٍ غربيٍّ مدنيٍّ علمانيٍّ، فالإشكاليّة التي بنيت عليها الفرضيّات الفلسفيّة الحديثة، ولاحقاً المعاصرة، انعكست عبر السؤال المطروح في شأن المجتمع المسيحي الغربي ما قبل الحداثة مستفهماً بغرابة عن مصدر ما جرى في المسيحيّة، منذ زمن الرّسل أو ما قاربه، مصوّراً النّاس بمشهد من لم يكفّ عن الحرب، في الداخل كما في الخارج، ومن لم يتوقّف عن ترحيل النّاس هنا وهناك، ومن لم يسمح للسعادة أن تحصل من خارج المشهد، ومن لم يحافظ على السعادة في بيئته، والسعادة، أو هناء العيش، هي مطلب كلّ الناس، في حين أنّ واقع الحال، على المشهد المذكور آنفاً، يُبقي الإنسانيّة في الظلمات.
إنّ معضلة نكران المساواة تجاه من ليس يشبهني ومن هو يختلف عني، كان سبباً للفلسفة الحديثة، في ظنّنا، ولكن ليست المسيحيّة، بما تتضمّن من قيمٍ هي في صلب شخصيّة الإنسان المخلوق على صورة الله، ولا في صلب مملكة الله، وهي ليست من هذا العالم، إنّما المسبّب هو أنّ الإكليروس، وهو جهازٌ بشريٌّ، والسلطة المطلقة، ومن يدور في فلكها، هي أيضاً جهاز بشري، و تحوّل التحالف إلى الحلف بين الجهـازيـن ليــس من صميم الرسـالـة المسيحيـة، والسلطة ليست فـي المســيحيّة مـوضــوعاً يُـنـاقــش فيه إلى نسبة الآيـة: «أدِّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، ونسبة إلى ما تقتضيه المسيحية في عمق تعاليمها من الغفران للأعداء، ومحبة القريب، والمسامحة، وطاعة مشيئة الله، والاعتراف بالآخر المختلف، وبإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، والتوبة، والعدل، إلخ.
أمّا الحركة التاريخيّة التي شهدت على إعمال الدين في سياسة الممالك والإمارات الغربيّة، كاثوليكيّة أوّلاً، وكاثولكية وبروتستانتية ثانياً، والتي لم تخلُ من استعباد المجتمع، ومن تحريف المعتقد المسيحي، ومن انحراف المسيحية كدين عن مسلكها الروحاني والإيماني، فهي أيضاً حركة تسمح بالتعمّق في شأن مسبّبات نشأة الفلسفة الحديثة التي تحدّت التحالف بين الدين والسلطة المطلقة، والتحالف ينقض، أما الحلف فليس من مبادئ المسيحيّة.
هل إنّ الفصل بين الدين والدولة، أو بين ما يُسمّى بالسّلطة الروحيّة والسّلطة الزّمنيّة، يقتضي إقصاء رجال الدين عن دورهم في الهداية، وفي الحفاظ على مقدّراتهم من دور عبادة، ومدارس، وجامعات، ومؤسّسات خيريّة، أو يفترض رذلهم وكأنّهم وباء في المجتمع… بلوغاً إلى إسقاط العناية بالكاتدرائيات، والتراث المسيحي الذي هو في صميم قوّة الغرب وعظمته… حتى تحويل بعض الكنائس إلـى متاحف، أو إلى مراكز للّهو… وإلى إلغاء الأعياد المسيحيّة عن الرزنامة السنويّة واستبدالها (بيوم عطلة)، علماً أنّ الأعياد غير المسيحية تذكر على الرزنامة ذاتها… وكيف تكون دولة علمانيّة في تعدّيها على تراثها المسيحي، وعلى كلّ حزب سياسي يتّصف بالنّزعة المسيحيّة، وعلى كل كاتب سياسي يعترض تجاوزات النظام العلماني الغربي في الإساءة إلى المسيحية، وفي اعتماد مبادئ اللياقة وحرية التعبير والمعتقد لمن ليس مسيحياً في النظام العلماني الغربي.
* ما هي التّصوّرات التي ترونها حيال ما يمكن اعتباره إصلاحاً للفلسفة الحديثة وذلك انطلاقاً من ضرورة إعادة المصالحة والوفاق بين العقل والإيمان الديني؟
في رأينا، إنّ الأزمة اليوم هي أزمةٌ حضاريّةٌ فلسفيّةٌ، وإن جاز السّؤال عن الأسباب فنجيب:
لا يمكن لإنسان عاقل ألّا يثق بالعقل البشري، وبقدراته، وبامتيازاته، ولا يمكن له أيضاً أن يتخلّى عن الاعتراف بسيادة العقل على حياته، بعبارة أخرى، بحكمة العقل التي يجب أن تكون أوّل إشعاع نوراني نحتكم إليه في خياراتنا وقراراتنا… وهو الجزء المكوّن لإنسان مخلوق على صورة خالقه.
ولكن العقل البشري ليس وسيلة لابتداع الآراء وحسب، ولا آلة ميكانكيّة تعمل وفقاً لعوامل خارقة، وليس بالضرورة أسير نظامٍ علمانيٍّ، مدنيٍّ، دينيٍّ، حزبيٍّ، إلخ… إنّما من أبرز مهام العقل الإنساني هو تواصله مع العقل الفوقاني المطلق، ليفهم الحقيقة لا ليبحث عنها، وهي حقيقة سرمديّة، ليبلغها لا لينقضها، ليجد تكامله معها لا ليُنتزع منها، ليدرك أهداف الله في خلقه لا ليفصّلها على قياسه، ليرتقي بالرحمة الإلهيّة التي بها تكتمل الرحمة الإنسانيّة، ليقدّر مرامي الله في إنسانه الحرّ، الإرادي، المسؤول، المحبوب من خالقه، لا لانتشال الإنسان من أحضان خالقه، وتحطيم الجزء الرئيسي من كيانه ألا وهو المدى الإيماني الروحاني الذي يصله بوجدانه الجواني، ويسكنه في الفضاء الإنساني – الروحي، آدمياً يحيا بجوارحه، وأعماقه، وأخلاقه، وعقلنته، وحكمته، وإنسانيّته المتعالية.
إنّ هذا الجزء من تكوين الإنسان ألغته الفلسفة الماديّة، وربطت الإنسان بقدرته العقليّة، وأقنعته فلسفياً بالمساواة مع الآخرين، وأغدقت عليه نعمة العقل الخلاصية دون سواها …وأقامت، بالتالي، الجدار السميك الفاصل بين الإنسان المادي، الفيزيائي، الكائن المتزمكن، المحدود، وخالقه اللامتناهي… اللامحدود… ومدّت العقل البشري بصلاحيات استثنائيّة تعزل الإنسان عن الما ورائيات والميتافيزيقا، ويطمئِنّ لما هو عليه من حقيقة ملموسة.
تلك هي المأساة الناجمة، والتي أضحت اليوم إشكالية أزمة الغرب المعاصر، بعد تجربة العيش والنموّ والتطوّر من خارج العودة إلى الله… التربية معلمنة، والحياة الدنيوية معلمنة، والنظام السياسي معلمن، هذا إلى جانب الثورة العلمية والتكنولوجية والإعلامية، يضاف إليها عولمة من غير رحمة، فالله غائب عن هذه الحضارة، وضائع، وقد يتعثر اللقاء به إلّا في ما ندر.
لن نطيل الكلام في مكمن العطب الأساسي لهذه الفلسفة، وقد أصبح إنسان اليوم فرداً رقمياً إلى أن يحتلّ مكانه الإنسان الآلي… وفي هذه اللوحة الحضارية الرقمية الصناعية الجديدة صورة عن العالم الآتي، حيث الإنسان الذي عقلنته الفلسفة الحديثة، وحرّرته مما هو ليس ملموساً وحسيًا… يصبح أقلّ من الآلة التي أنجزها… وكأنّ الإنسان ضجر من ذاته، فراح يصنع ما يعتقده أقوى منه… فاستسلم لقدر لم يكن بالفعل ولا بالقوّة مؤهّلاً له… ولكنّه يعاني من عواقبه.
إنّ الأزمة التي أنتجت الفلسفة الحديثة والحضارة الحديثة وصولاً إلى المعاصرة، هي ذاتها ستتمخّض عن أزمةٍ ثانيةٍ تنتج فلسفتها الجديدة التي ستواكب المجتمع الحاضر واللاحق، وعسى أن تجد الفلسفة الموعودة سبيلاً لإخراج إنسان اليوم والغد من (الآلة – الإله) قبل أن يفتقد إنسانيّته بشكلٍ كاملٍ.
إشكاليّة في النّظر إلى الفلسفة
إن غابت عن الإنسان الغربي المعاصر معاني الانتماء إلى أمة – وطن، تحمي، منذ عصور، أشكال الحياة في الغرب، وأصبحت اليوم إلى من يحميها.
إن أطاحت العولمة الاقتصادية بشكل الأوطان، بخاصة في الغرب المتقدّم، وبدأت رحلة تذويبها في شرعيّة معولمة، مخالفة، إلى حدّ بعيد، لمبادئ الفلسفة الحديثة، أقلّه لفلسفة باسكال القائلة إنّ كلّ نظام بشريّ عليه أن يجمع بين العدالة والقوة، وإنّ مثل هذا الجمع لا يتحقّق إلا في نظامٍ ديمقراطيٍّ قائم في جمهوريّة ديمقراطيّة بالمعنى الصحيح للكلمة.
إن سال الحبر الفلسفي في المواطنة الغربية مئات السنين، وقد أضحت اليوم أمراً ثانوياً خدمة لتدفّق الهجرة إلى أوطان الغرب، ولعبور الحدود من دول أقلّ تطوّراً، ونموّاً إلى دول تتصدّر الحدود، والمقبول قسراً على صعيد الإنسانيّة الكونيّة.
إنّ تحوّل الإنسان الغربي المعاصر إلى شخصٍ يبحث عن ذات ذاته، في زمن يجد نفسه فيه في مواجهة تشبه إبادة الإنسان للإنسان، وكأنّ عمليّة مسح تاريخي تجري، وتسلخ الإنسان، في الغرب بخاصة، وعلى مساحات القرية الكونية بعامة، عن جذوره وأصوله ومصدر انبعاثه.
إن انتفت الفلسفات والإيديولوجيات لصالح فصل جديد من فصول إعادة النظر، وجعلت الغربي المعاصر يسعى، من غير جدوى، إلى استعادة ما سلب منه من عاطفة عائليّة ودينيّة، واجتماعيّة وروحيّة، شكّلت إلى حدّ بعيد، التحديد الغربي لمفهوم الحياة والانتماء والهويّة.
* مع صدمة جائحة كورونا بدا وكأنّ هذا الحدث الجدل استعاد من جديد سؤال الميتافيزيقا لا سيّما وأنّ البشريّة دخلت في مواجهة جديّة مع سؤال الحياة الموت.. كيف ترين إلى هذا الحدث في تفاعله مع العقل العلمي الذي يسيطر اليوم على إدارة نشوء العالم؟
– لمّا بلغت الفلسفة الغربية المعاصرة مشروع (البشر بعامة) بالمعنى المقصود منه الاجتماع الإنساني المنفصل عن الأعمال والمؤسّسات، أي المنفصل عن أخطاء ماضيه، المرمي صدفةً في العالم، هذا يعني أنّ الإنسان الذي قذفته العولمة ليس أحدا، بل هو رقم إحصائيّ، ومن أتعس ما وصل إليه هذا الإنسان الغربي أوّلاً، المعاصر، من إهمال وجودي، تبيّن بصورةٍ غير مسبوقةٍ مع جائحة الكوفيد-19، التي حصدت الأرواح في الغرب المتطوّر والمتقدّم صناعياً وعلمياً وطبياً واستشفائياً، بأعداد تفوق الأعداد البشريّة المقيمة في المنقلب الآخر من الكرة الأرضية.
ولمّا عجز العلم، والطب، والمختبرات، حتى الساعة، عن إيجاد العلاج الملائم، بغضّ النّظر عمّا يتداوله بعض العلماء في الطب والتحاليل من التنبيه من لقاح الكوفيد-19 المتهم أنّه العلاج الممهّد لإنهاء ما يوازي 80% من الإنسانيّة الكونيّة؛
نرى ذاتنا نسأل أيّ فلسفة تتحدّى ما تخبّئه جائحة الكوفيد-19؟ أي فكر حرّ سيادي يتمتّع بصلاحيّة مواجهة مسببات ونتائج الكوفيد-19؟ أيّ تيار أو مذهب عقلانيّ يمتلك ناصية المعرفة والحلّ في جائحة كورونا؟
ونجيب: هي الفوضى العارمة، مطلع القرن الواحد والعشرين، فوضى تدمّر ولا تعمّر؟ هي فوضى الخوف من الآخر مجدداً، وفوضى الذّرائع التي لا تنبض بروح التطوّر الخلاّق بقدر ما تنبض بروح الاستهلاكيّة المعرفيّة أو الإستهلاكيّة الاقتصادية، وبتجييش عالم إلكتروني على شبكات التّواصل يكتب تاريخاً لم يقرأه أحد في السابق.
الأسئلة كثيرة وشائكة، كثيرة ومبعثرة؛ والأجوبة في اضطراب؛ إذ لا يتمكّن ذهن الإنسان المعاصر، في الغرب، أو في أيّ مكان آخر، من هضم كلّ ما يجري … السباق بين الأرنب والسلحفاة أوصل، في زمن الحكمة والتروّي، السلحفاة إلى الغلبة. ولكن هل السباق اليوم هو بين أرنب طائش وسلحفاة تتحدّى قدرها لتصبح عبرة للمجتمع؟
بالطبع لا! وإنّ السباق اليوم هو بين إنسان الحداثة الذي أوجده التاريخ والفكر والمقاومة الفلسفية والإنسان المعاصر الذي توارى عن مساحة هذه الفلسفة … والسؤال الأصعب، في ما وصل إليه الإنسان المعاصر، يترجم مساءلة الحداثة عن مسؤوليتها في تفريغ الإنسان من إنسانيته.
لقد فضحت جائحة كورونا استهتار البلدان الغربية بكرامة الإنسان، وفضحت أولويات علومها المحصورة بالتسلّح الفتّاك، يغزو الفضاء، بالذّكاء الإصطناعي، وباستثمارها في القطاع الزراعي والصناعي وفي الأسواق الاستهلاكية … والسؤال أين الأموال المستثمرة في الحفاظ على صحّة الإنسان، في صون حياته بدل تكديس القنابل الذرية، في تأمين الكمامة دفعاً لوباء تتعثّر النّظريات حول مصدره وطرق انتشاره… لا جواب شاف عليه.
إنّ الإنسان المعاصر، الذي حصدته جائحة كورونا من غير شفقة، وقف مكتوف اليدين أمام الواقع الأليم، وشعر أنّه مدين لهذا الوباء الذي اعترض حياته المأزومة والمزجوجة في عجلة الإنتاج المفرط لمجتمع استهلاكي مسعور؛ لأنّه ردّ له وعيه بمحدوديّة العقل الإنساني، في العلوم الطبية، بالهزيمة في معركة البقاء والاستمرار.
وتقلّصت القرية الكونيّة، وعاشت الحجر الصحي بالكامل، وتمترس النّاس في بيوتهم، وفرغت الساحات والطرقات والفضاءات الواسعة، وسكن الصمت المدى الأكبر… وتحوّلت نظرية (لا نعمل) إلى نوع من فلسفة الوجود الإنساني، وكأن الحياة الغالية ترفض أن تقع فريسة معادلة الإنتاجية المتفلتة والجامحة بحثاً عن مساحات الفكر والثقافة والروح الأكثر رحابة وعمقاً.
وإن سلّمنا أنّ جائحة كورونا أرجعتنا إلى حجمنا الإنساني الطبيعي، فهذا يذكرنا، مرّة ثانية، بتشبيه باسكال للإنسان بالقصبة المفكرة، وبتجسيده المعادلة الكيانية التالية: العظمة في الهشاشة. وكأن الإنسان المعاصر اليوم، الغربي منه في الطليعة، إحتاج إلى وباء خفي، ليوقظه من مآسيه، ليردّه إلى ذات الذات المسلوبة منه، وليدرك أن الحضارة المعاصرة انتظرت وباءً متوارياً عن الأنظار، لتصحو وتسترجع العلاج الروحي والتأملي والتجديدي.
كم مرّة ردّد المجتمع المهدّد بالوباء (يا إلهي) ، (يا رب)، (يا سيد الكون)، (يا الله)… كم مرّة تضرّعت المجتمعات الرهينة للوباء إلى الأولياء والقديسين، كم مرّة ساقهم تهديد الوباء إلى تقبيل التراب… والسير حفاة… وإضاءة الشموع… ورفع الابتهالات وضخّ البخور… حتى ليقال أحياناً في العودة إلى المنبع الإيماني العلاجي إنّها مصابة بالشعوذة. جائحة ساوت بين البشر في الغرب وفي كلّ مكان آخر… جائحة استقبلت الصمت ليسيطر على الكون…
ولمّا كان الخوف قديمًا من عنف الآخر هو ما قاد المفكرين الغربيين إلى استحداث النظريات والفلسفات والتيارات الفكريّة؛ بهدف تطوير الاجتماع الإنساني، تارة عبر الدعوة إلى إخراج الفكر البشري من عهد طفولته ولاهوتيته وتصوّراته ، وطوراً عبر استدراجه إلى التّفكّر والتّفلسف والبحث في المعضلات التي تقلق فكر الإنسان، فتطرد هكذا الآلهة من الكون ويحلّ محلّها قوّة واحدة تسمّى (الطبيعة) أو عبر العلم الوضعي الذي يدعو الإنسان ليدرس الأشياء بالنسبة إلى علاقتها بحاجاته بغضّ النظر عن الأسباب الأولى؛ إذ لا تعود عليه بالنفع، ولمّا ثبت للتفلسف الغربي أنّ العلل الأولى لا يستطيع الإدراك الوضعي أن يدركها، فدعا الإنسان إلى تنظيم جهود العلم نحو ترقية أحواله حتى تتساند المعارف، ويستنير الإنسان وسط ظلمة هذا الكون الذي يجهل أصلاً جوهره جهلاً مطبقاً.
ولمّا جاء البحث عن كيف يحدث الشيء أسهل وأكثر قابلية للاستيعاب من البحث عن معرفة اللماذا يحدث الشيء …ولمّا تركت النظرية الوضعية مخرجاً يضع نتائج أبحاثها تحت مجهر النقد، رافعة القيمة المطلقة عنها، متمسّكةً بمنهجين أساسيين هما الاختبار والرياضيات، فهي، أي الوضعيّة، ما تراجعت عن استبعاد المبدأ القائل بالمعرفة لأجل المعرفة اقتناعاً منها أنّ الغاية من المعرفة أن تكون عمليّة لا نظريّة؛ لأنّ بها نتوقّع حدوث الشيء كي نتداركه عند الحاجة.
ولمّا استوى عند الفلاسفة اختلاف الوضعية عن النظرية الأرسطية، والديكارتية، والكنطية، المقتبسة من اللاهوت والميتافيزيقيا المجردة التي تنطلق دائماً من الذات انطلاقاً ذهنياً منطقياً، بإِخضاعها كل الفلسفات لشكّ العقل، وبرفضها لأي عقيدة لا تخضع لأحكام الوضعية، وصولاً إلى الجبريّة العلميّة والاعتقاد أنّ الإنسانيّة هي التي تبدع الوجدان وجميع القيم الضميريّة والأخلاقيّة، واعتبار الإلهام غير كائن، وأنّ العلم وحده هو الكفيل بحفظ الإنسان من الوقوع في أخطاء الواهمة.
ولما نتج عن الالتزام بالرصد الوضعي والتجربة العلمية السبل الآيلة للتسلّط على الطبيعة وتحسين حال الإنسان الاجتماعيّة، وتقدّم العلوم النظرية والعلميّة، وانطلاقة الثورة الصناعيّة، وظهور الرأسماليّة بسبب وفرة الآلات الصناعيّة والزراعيّة، وإطلاقة التسويق في الداخل وإلى خارج الحدود، انشطر المجتمع الغربي إلى شطرين ومعسكرين: الرأسمالية وطبقة العمال، وبالتالي، الرأسمالية والاشتراكية، التي أسهمت في القضاء على التديّن، بتهمة أنّ التديّن يضعف الطبقة العاملة التي يستغلّها الرأسماليون الأغنياء.
بالاستناد إلى ما سبق نستخلص أنّ الفلسفة، الغربية، الحديثة أو المعاصرة، ارتبطت بحدث، ما يعني أنّ المنطق الذي يعلم الإنسان كيف يفكر في شؤونه يعلّمه أن يفكر بمنطق خاص يناسب المكان والزمان اللذين يتفلسف فيهما ويعمل لحفظ ديمومتهما.
* ألا يبدو أنّ السّؤال الفلسفي كما جرى التّعامل معه على امتداد قرون قد تغيّرت ماهيّته، حيث انتقل من طور الاستفسار عن الممكنات الفانية إلى السؤال عن الوجود المؤسّس أي عن مبدأ هذا الوجود وهو سؤال ديني بامتياز؟
في العلاقة بين الفلسفة والحدث إمعانٌ في مساءلة الممكن الفاني والعارض والمُختَبر والمشرّع من النواميس، والمعرض عن سؤال الوجود كسؤالٍ مؤسّسٍ، يقينا منها أنّ الإنسان كائنٌ يعقل، يفكّر، على قصوره إن في الوصول بين النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العيني)، وإن في ادّعائه الفصل بين الرّوح والمادة فصلاً تاماً، وإن في عجزه عن تجاوز المقولات الأرسطية العشر.
من السؤال الأرسطي عما يتعدّى فيزياء العالم ومظاهره ومحسوساته، ومن إمساكه عن مواصلة السؤال الذي، على اعترافه بالمحرك الأوّل، بقي من غير جواب، ومن استقراره في الطبيعة واستئناسه بها، نجح الذهن الفلسفي بالبحث في ما هو تحت مرمى النظر، ودامت فلسفة المقولات العشر حتى القرن السابع عشر، وتركت انعكاساتها على أكثر من فيلسوف غربي حديث.
من فلسفة تؤسّس ذاتاً من دون مسبقات، إلى وضعية علمية تطرح تغيراً جذرياً في طريقة التفكر بالكون المادي وفهمه، إلى إحلال الرياضيات – محل المتيافيزيقيا- اسلوباً مناسباً لتكوين الفهم العلمي والتجريبي للعالم، إلى النزوع الإلحادي، إلى ردة الفعل على الوضعية التجريبية العلمية والمادية والإلحادية عن طريق مسالك وسبل مغايرة تتبناها الفلسفة المعاصرة.
ولعلّ أبرز ما تتصف به الفلسفة بعامة إنّها أصدق المظاهر العمرانيّة التي تدلّ على رقي أمّة؛ لأنّها تبحث في الوجود من حيث أنّه موجود.
إذًا، لم تخلُ الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة من تيّارات متعارضة أو مختلفة عن تلك التي انعكست تأثيراتها على اختزال علاقة الوعي الإنساني بالمتناهي بمعزل عن الله.
فكانت الروحية التي عبرت عن ذاتها في مخاطبتها النّفس العالية داعية إيّاها أن تسمو بالفكر والإيمان وتقوية عاطفة النبل والتقدير في الإنسان، ضاربة بذلك (الأنا) الديكارتية المتألهة، محاولة إسقاط التعاسة التي وُضع فيها الإنسان الحديث والمعاصر عن طريق إظهار حال النعمة التي كان فيها، وعن طريق فلسفة تجمع بين العقل والإيمان.
إنّ الفلسفة الروحيّة هي أيضاً تفكير واكب الفلسفة الوضعيّة الجبريّة العلميّة والفلسفة المادية والإلحادية، واهتم بحياتنا الباطنيّة على أنّها اتّحاد مع الله ووسيلة لتسوية النّفوس البشريّة بفضل المحبّة.
وتمكّن هذا المذهب من شيد السلوك السياسي على قوى هي فوق الفرد، شأن التراث، على سبيل المثال، اقتناعاً منه أنّ القانون الذي ينضج عبر الزمن يتجاوز المشرّع ويصبح كالعقل كائناً عاماً، هذا بالإضافة إلى النّشاط اللا جبري في الكائنات لا يفهم إلا في الحياة الأخلاقية، بعبارة أخرى، في اندفاع الإنسان نحو خالقه الذي يشعر به في أعماق كيانه. ولا تفوتنا في هذا المجال البرغوسنية الأتية بمفهوم جديد للإنّية، وفي تحديد موقعها، داعية إلى سلخ الإنّية الوجدانية عن المكان؛ لأن الإنّية تتصف بدوام وحركة ومغايرة، وكثرة في أجزائها لا في مكانها، وتقدر على التمرّد وعلى التحرّر من أي لازمة.
وإن تطرقنا إلى الهيغلية، التي رأى فيها باحثون وفلاسفة أنها مصدر الوجودية البعيد، والمثالية المطلقة، نكتشف تلك التاريخية الجدلية في عالم الفكر، وانجذاب الفكرة أساساً إلى العمل الثوري المتواصل، مؤكدة على أن تاريخ الفكر هو في حركة دائمة وفي صيرورة قابلة لنقض ما سبق، أو حتى لتذويبه، لتخلق ما سيكون… وهكذا تكون الفلسفة الغربية المعاصرة، أشبه بتفكر يهدف إلى إظهار أن الثابت غير الكائن، وأن الحركة في حد ذاتها هي إزالة لذاتها، كي لا تجمد في الزمن.
اما الهبّة الوجودية المعاصرة فقد رأى فيها كثيرون أنها نتيجة منطقية للألم، وردّة فعل الطغيان الجماهيري الذي لم يحترم وجود الفرد، وفلسفة ساعية إلى خلق عصر الشخص.
* هل يعني ما تقدم، أنّ سؤال الإيمان والأخوّة الكونيّة، هو الذي سوف يتصدّر موضوعات الفلسفة في العقود المقبلة؟
إن كان لا يُمكننا أن نتنكّر للأبحاث والدراسات والمحاولات الجبارة، في تاريخ الفكر البشري، لهيلنة الإنسان أو حيونته، فأيضاً لا يُمكننا أن نهمل أنّ الإنسان هو فرد مطلق، منسوج من ذاته، ينظر، بشكلٍ لا ريب فيه، إلى فوق، ويؤكّد على حدّ تعبير كمال الحاج: «إنّه هو في بدء من العلاء قبل كل شيء» وتسقط، بالتالي، محاولات إثبات كون الإنسان أصلا من المادة دون سواها أو من الحيوان، أضف أنّ الاختبارات العلمية، حتى الساعة، لم تنجح بعد في إخراج الإنسان لا من المادة ولا من الحيوان.
في بحثنا رأينا أنّ الفلسفة سعت إلى رفع الحجاب عن العقل الإنساني، وآمنت بقدرة هذا االعقل ليعرف أنّه يعرف وليعي أنّه يعي. إلّا أنّنا في التنقّل بين حدسيّة اتّجاه الفلسفة القائلة بقصور العقل حيال غيبيات الباطن، ومقارعتها بفلسفة أخرى تقول «أن عقل الإيمان هو إيمان العقل»، نستنتج، بالتالي، بلوغ مسألتي الله والنفس بالأدلّة الفلسفية، ويُستخلص أن الفلسفة ليست بحثاً عن الحقيقة.
وإن سلّمنا أنّ الشّكّ المنهجيّ هو من صميم الفلسفة، فنحن نعتبره مسلكاً بنّاءً؛ لأنّه يسعى إلى اكتشاف المعرفة والخروج من الظلمة إلى النّور.
وإن أحطنا بالتراث اهتماماً فهذا إيماناً منّا بالحركة التاريخيّة التي تثبت أنّ ما هو تراث اليوم كان ثورة بالأمس، وهذا يختلف عن التقليد والجمود في اللّا حركة والتّقاعس.
وإن اقتنعنا وآمنّا بنظام كوني عام ينبثق منه خير الإنسان أو شره، وحوله تتعمّر الأفكار، انطلاقاً من فكرة-أم، تكون بذلك الفلسفة نشاطاً عقلياً وذهنياً يتسلح به الإنسان لفهم ذاته وفهم الحقيقة المستقرة فيه.
وإن تفهّمنا أنّ الإنسان هو مصدر الفلسفة، والفلسفة هي الإنسان عينه، والاهتمام بالفلسفة يعني الاهتمام بالإنسان، واستدركنا أنّ البحث في الإنسان ليس بالأمر السهل لما يتطلّب من وعي وإدراك وتمييز بين اتّجاهي العقل بذاته: هابط وصاعد، وفي إمكانيّة التنقيب والغوص على المقوّمات والأبعاد، وولوج الأسرار الصادمة في الكائن الإنساني، نعي أنّ الفلسفة رافقت الإنسان، وخضعت لسنّة النشوء، فارتقت هنا، وتراجعت هناك، إلا أنّها لم تكلّ ولم ترهق، فهي لا تزال قدس أقداس المعارف الإنسانية.
أمّا أن يدّعي شعب أنّ الحقيقة لم تختر سواه وعاءً لها، فنقول له ليست الحقيقة، بمطلقها، وقفاً على أمة دون سواها. لم تكن الحقيقة للشرق دون الغرب، وهي، اليوم، ليست للغرب دون الشرق.
إنّني هنا استلّ قولةً فلسفيّةً لكمال الحاج (إنّ كلاً من الشرق والغرب واجب وجود للآخر وجميع الشعوب إخوة في نظر الحقيقة، وإلا بطلت أن تكون حقيقة)، واختم أيضاً بفلسفة (أنا عاقلٌ أنني عقل يعي)، لذا أظنّ أنّه مهما تباينت النظريات بين الفلاسفة الغربيين المعاصرين، فهم، في نهاية الأمر، ينقسمون إلى مدرستين: مدرسة روحيّة ومدرسة ماديّة.
وإن اهتمّت الفلسفة بالرّوحي والمادي على سواء يبقى أن تقييم هذين الواقعين أو المفاضلة بينهما غالباً ما كان روحياً، إيماناً منّا أنّ البحث، حتى في أتفه الأمور، بروح فلسفيّة، يقودنا، بشكل قاطع، إلى الوجود الأكبر، فنقتنع حينها اقتناعاً مسؤولاً أوّلًا وحراً ثانياً.