عمل سبينوزا (1632-1677) على صياغة فلسفة متميزة عن سلفه ديكارت، فلسفة جعلته يخرج من دائرة التفكير الديكارتي نحو فلسفة أكثر واقعية ومادية. فإذا كان ديكارت قد بقي محافظا في بعض القضايا، مثل مسألة الجوهر، حيث يعتبر تصوره امتدادا للعصر الوسيط، فإن سبينوزا رفض التصور التقليدي الذي يجعل من الجوهر شيئا منزها، منفصلا عن أحواله ومتعاليا عنها. لكي يقيم سبينوزا تصوره الجديد فقد كان ملزما بهدم التصورات الكلاسيكية للإيمان والأخلاق، من أجل بناء إيتيقا متكاملة، تنطلق من مفهوم الجوهر، باعتباره النقطة الأرخيميدية التي تنبثق منها مختلف أشكال الوجود؛ ذلك أن الجوهر ليس علة ذاته فحسب، بل إنه علة كل شيء، وبعبارة أخرى، إذا كان سبينوزا يجعل من الجوهر علة ذاته وعلة كل شيء آخر، فإن هذا التعريف ينطبق تماما على مفهوم الإله، والذي حاولت أغلب الأديان صياغة تعريف له، غير أنها سقطت في النزعة التشبيهية التي تضفي الصفات الإنسانية، كالفرح، والغضب، والكراهية على الإله. لقد رفض سبينوزا التصور الكلاسيكي للإله؛ ذلك أنه ينطلق من أحكام مسبقة، وفهم خاطئ للنصوص المقدسة. ليس هذا فحسب، بل إن مثل هذا التصور يفضي إلى الإيمان بالخرافة وتبني قيم أخلاقية مغلوطة. لذلك، فكلمات مثل الإله، والجوهر والطبيعة هي في الحقيقة شيء واحد، إنها العلة الفريدة التي لا تكون كل الأشياء الأخرى سوى أحوال لها.[2]
على سبيل التوطئة:
تمحور مشروع سبينوزا (1677-1632) حول إعادة صياغة الإيتيقا على أسس جديدة، فبعدما كان الهم الأكبر للفيلسوف هو إعادة الاعتبار للفلسفة الديكارتية، من خلال شرحها، وهو ما تحقق بالفعل في كتاب “مبادئ فلسفة ديكارت” انتقل شيئا فشيئا نحو صياغة فلسفته الخاصة، التي تقوم في أساسها على مفهوم الجوهر. فإذا كانت “الأنا المفكرة” عند ديكارت هي النقطة الأرخيميدية التي تتولد عنها نظريتي المعرفة والأخلاق، فإن سبينوزا يرى أن الجوهر هو الحقيقة الأولى. وعن طريق نظرية سبينوزا في الجوهر تم تجاوز المعضلات التي طرحتها الثنائية الديكارتية مثل علاقة النفس بالجسد، ومدى تأثير الواحد منهما في الآخر.
لقد كان سبينوزا يعلم علم اليقين، أن تصحيح نظرية ديكارت لن يضعه في مواجهة رجال الفلسفة، الذين بقي عدد كبير منهم مخلصين “لأب الفلسفة الحديثة”، بل إن محاولته لتأسيس فلسفته الخاصة ذات الطابع العقلاني المادي ستقوده بلا ريب إلى المواجهة مع رجال الدين. لذلك تركزت أعماله صوب اتجاهين اثنين: من جهة نسف الأفكار التقليدية عن الإله والمعجزات، وقداسة النص الديني. ومن جهة أخرى مواجهة الفلسفة المثالية الديكارتية بفلسفة أخرى أكثر مادية، فلسفة تنطلق ليس من الإبستيمولوجيا كما يرى المختصون في الفكر السبينوزي[3]، وإنما من الأنطولوجيا.
حقا لقد أحدث سبينوزا ثورة في الفلسفة لا تقل أهمية عن الثورة التي أحدثها كوبرنيك في مجال علم الفلك. ولم يكن بإمكان سبينوزا أن يحدث مثل تلك الثورة لولا تأليفه لكتاب “الإيتيقا”، وهو الكتاب الذي أرسى فيه الفيلسوف صرحا أنطولوجيا قويا، منطلقا في ذلك من مفهوم الجوهر فما المقصود بالجوهر؟ وبأي معنى يكون هناك تطابق بينه وبين الإله من جهة والطبيعة من جهة ثانية؟ وبأي معنى يمكن اعتبار الجوهر منطلقا لتأسيس معرفة حقيقية وبديهية؟ وما علاقة نظرية الجوهر السبينوزية بنظريته الإيتيقية؟
1- في دلالة الجوهر والاختلاف بين التصور السبينوزي والتصور الديكارتي
في القسم الأول من كتاب “الإيتيقا” يعمل سبينوزا على صياغة تعريف لمفهوم الجوهر، معتبرا أنه الحقيقة الأولى والضرورية؛ لأن معرفته هي شرط لكل “معرفة ممكنة” بلغة كانط (1724-1804) بهذا المعنى، فالمعرفة الواضحة تتوقف ليس على مدى معرفتنا بذواتنا كما يرى ديكارت، وإنما تتوقف على معرفتنا بالجوهر الذي يعتبر سببا لوجوده، بمعنى أنه يتمتع بالاستقلالية الأنطولوجية والإبستيمولوجية “أعني بالجوهر ما يوجد بذاته، وما يتصور بذاته، أي ما لا يتوقف بناء تصوره على تصور شيء آخر”. [4]
بهذا المعنى، فالجوهر من منظور سبينوزا، لا يمكن أن يتصور إلا موجودا؛ لأنه حتى لو افترضنا العكس ستكون هناك على تمنع وجوده، مما يعني أن وجوده أمر لا مناص منه، ولا محيد عنه. إن خاصية الوجود هي من بين الصفات المؤلفة لماهيته، بل إنها الصفة الأكثر تفردا له، الأكثر تمييزا له. وفضلا عن ذلك، فهو واحد، حيث إنه لا يمكن أن يوجد جوهران من نفس الطبيعة، ولهما نفس الصفات مثل اللاتناهي والإطلاق.
إذا نحن سلمنا بخاصيتي اللاتناهي والإطلاق، باعتبارهما من صفات الجوهر، فمن غير الممكن أن ننسبها لجوهر آخر؛ لأن ذلك سيجعل تعريف الجوهر متناقضا. إن اللاتناهي والإطلاق هي صفات حصرية للجوهر، نقول صفات حصرية؛ لأن هناك صفا تشكل ذواتنا كبشر، مثل الفكر والامتداد. ففي نهاية المطاف نحن مجرد أحوال له. أما اللاتناهي والإطلاق، فهما صفتان حصريتان تجعله متميزا عن أحواله.
وعلاوة على ذلك، فالجوهر علة ذاته؛ أي إن وجوده لا ينتج أنطولوجيا عن جوهر آخر، كما أن تعريفه لا يشتق ابستيمولوجيا من شيء آخر. فوجوده، كما تعريفه محايث لماهيته. يستدل سبينوزا على وحدانية الجوهر، بأن عقلنا البشري، غير قادر على تصور جوهرين متساويين من حيث الصفات، ومن ثمة من حيث القيمة، فلو وجد جوهران لوجب أن يكون الواحد منهما علة للآخر. وهذا غير ممكن، لأنهما -والحالة هذه- سيمتلكان نفس الصفات كالوجود واللاتناهي والإطلاق.
وفي الحقيقة، فإن إقرار سبينوزا بوحدانية الجوهر، في كتاب “الإيتيقا” ليس شيئا مفاجأ، حيث إننا إذا تتبعنا مؤلفات “أمير الفلاسفة[5]” سنجده قد ذهب إلى هذا التصور في كتاب له بعنوان “Court traite sur Dieu, l’homme et la Béatitude حيث يذهب للقول بأنه “لا وجود لجوهرين في الطبيعة[6]” لذلك، فالتعريف الذي يصوغه سبينوزا في كتاب “الإيتيقا” يبدو منسجما مع ما ذهب إليه في كتابه “رسالة حول الله، والإنسان وغبطته” كما أنه أكثر انسجاما مع التصور الذي يتباه سبينوزا في كتاب “رسالة في اللاهوت والسياسة”
إن ذهاب سبينوزا لوحدانية الجوهر، يتعارض كل التعارض مع تصور ديكارت الذي يزعم وجود جوهر مفكر في مقابل جوهر ممتد، وهذا التقسيم جعل ديكارت، أمام معضلات من الصعب حلها كالعلاقة بين النفس والجسد، وبعبارة أخرى، إذا كانت النفس جوهرا مفكرا، والجسد جوهرا ممتد، فمن الصعب تفسير التفاعل بين جوهرين مختلفان من حيث الطبيعة. هذا دون أن نغفل أن تصور ديكارت يعطي قيمة للنفس على حساب الجسد، وهو التصور الذي كان سبيوزا يرفضه بشدة، لكونه تصورا مثاليا بعيدا أشد البعد عن العلم (سنعود لهذه النقطة لاحقا)
لنسلم إذن، بأن تصور سبينوزا للجوهر يبدو أكثر راديكالية من ديكارت. صحيح أن سبينوزا كان معجبا في مراحله الأولى بديكارت، إلا أنه سرعان من أعلن ثورته على هذه الفلسفة، عبر استبدالها بفلسفة أكثر مادية وثورية، فلسفة تتمتع بطابع الجدة والأصالة. لدرجة أنه لا يمكن أن تذكر مفهوم الجوهر دون ذكر صاحب “الإيتيقا”؛ ذلك أنه على الرغم من أن الحديث عن مفهوم الجوهر قديم، بل إن أرسطو تطرق له، لكن ما يجعل سبينوزا متميزا هو إفراغ هذا المفهوم من معناه الكلاسيكي، وإعطاؤه معنى ثوريا.
لا عجب أن يكون تصور سبينوزا للجوهر مطابقا لمفهوم الإله؛ ذلك أن الإله هو كائن “لا متناهي إطلاقا، يمتلك عددا لا متناهيا من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية[7]” فالجوهر هو عينه الإله من منظور سبينوزا؛ ذلك أن هناك تطابقا في الصفات كالوجود واللاتناهي والإطلاق.
وإذا كانت الأخلاق التقليدية قد قامت على ثنائية الخير والشر، فإن هذه القيم تأسست بدورها على التصور التقليدي للإله، وهو التصور الذي تمثله الأديان التاريخية.
تعتقد الأديان التاريخية أن الإله متعال عن الكائنات[8]، ومن ثمة تُصوره مثل الملك الذي يفرح ويغضب، يجازي ويعاقب. والحق أن هذه الأديان إذا كانت قد تأسست (من منظور سبينوزا) بغاية القضاء على الوثنية، فإنها في المقابل سقطت في نوع آخر من الوثنية، وثنية تقوم على تـأليه الإنسان بدل تأليه الإله. وبعبارة أخرى، إن الأديان التي ينتقدها سبينوزا تكمن مشكلها في أنها أسقطت الصفات البشرية على لإله، وهذا الإسقاط أفضى إلى تصور مغلوط للأخلاق قوامه الخير والشر.
لا عجب إذن أن يهاجم سبينوزا، التصور التقليدي للإله، فهذا التصور ليس سببا في التعصب فحسب، بل -إنه علاوة على ذلك- السبب الذي جعل الناس، ولأمد بعيد، يجهلون علل وأسباب الظواهر الطبيعية الأمر الذي دفعهم إلى الارتماء في أحضان السحر تارة، والمعجزات تارة أخرى فما الذي يدفع الناس إلى الإيمان بالمعجزة؟ وهل لهذا الإيمان علاقة بفكرة تعالي الإله؟
2- المعجزة كنتيجة لفكرة التعالي:
يتحدث سبينوزا في الفصل السادس من كتاب “رسالة في اللاهوت والسياسة” عن المعجزة قائلا “مثلما يسمى العلم الذي يتعدى حدود فهم الإنسان إلهيا، اعتاد الناس تسمية العمل الذي يجعل العامة سببه إلهيا؛ أي عمل الله، فالعامة يظنون أن قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورة ممكنة إذا حدث في الطبيعة -على ما يبدو- شيء خارق للعادة، مناقض لما اعتاد العامة أن يتصوره …”
لنركز قبل الخوض في الأسباب التي تدفع الناس إلى الاعتقاد بمثل هذه الخوارق، إلى عبارتين أساسيتين، لا ينفك سبينوزا يؤكد عليهما، فهو يصف “المعجزة” بالحدث، وهذا لا يعني أن سبينوزا ينفي وقوع ما يصطلح عليه “معجزة” ولكنه يعتبر أنها ظاهرة طبيعية مثلهما مثل باقي الظواهر، وهي ليست بذلك شيئا خارقا كما يعتقد العامة. إن استعمال كلمة العامة في سياق حديث سبينوزا عن المعجزة ليس مصادفة، بل إن له معنى. فرجل العلم لا يزمن بالمعجزات، فكل ما يحدث من ظواهر خاضع لمبدأ السببية. فلو كان الناس على قدر من العلم، والمعرفة بقوانين الفيزياء، لما انجروا إلى الإيمان بالخوارق التي تعتبر مصدرا أساسيا من مصدر الشر.
لكن هناك نقطة لابد من الإشارة إليها، قد تكون أكثر أهمية من سابقاتها، وهي كالتالي: إن الإيمان بالمعجزة، ينتج حتما عن الاعتقاد بوجود إله متعالي عن الطبيعة؛ ذلك أننا إذا تصورنا الطبيعة كمجموعة من القوى العمياء، وأن الإله مثل الملك الذي يقودها، فإنه لا وجود من مانع يمنع من الاعتقاد بأن الإله يتدخل في قوانينها كلما أراد تحقيق رغبة من رغباته. وعلى الرغم من أن الرغبة خاصية إنسانية، إلا أن العامة، لا يترددون في إلصاق رغباتهم وأهوائهم بالإله. لعل هذا ما يفسر السبب الذي يجعل الكتاب المقدس يصف الإله يهوه في أكثر من مرة بأنه غيور.[9]
إن الاعتقاد بوجود إله محايث للطبيعة من منظور سبينوزا من شأنه أن يبعدنا عن الخرافة، إذ سيكون من غير المنطقي، أن يتدخل الإله في الطبيعة لخرق قوانينها، لأن مثل هذا التدخل يفترض انفصالهما. لكن ليس هذا السبب الوحيد الذي يدفع الناس إلى الانجرار وراء الخرافة، وإن كان السبب الرئيس. فهناك سببان آخران: من جهة ميل العقل البشري نحو البساطة، فكثير من الناس يجدون صعوبة في فهم واستيعاب قواعد المنطق، ومن ثمة يؤمنون بالخرافة لبساطتها، ولأنها تخاطب العاطفة والخيال، لا العقل والفكر. فضلا عن الخوف الذي يتملك الناس كلما أحسوا بأن هناك خطرا يهدد وجودهم، ولذلك، كان الإنسان القديم يعتقد أن الكوارث الطبيعية تعبر عن غضب الآلهة، فكان لا يتردد في إقامة طقوس الثوبة، وتقديم القرابين. فلو كان الإنسان قد بلغ من العلم مبلغا مهما لما كان في حاجة إلى مثل هذه “التدخلات من جانب الإله في الطبيعة”
وإذا أردنا الذهاب بفكرة سبينوزا إلى أبعد من ذلك، وقمنا بتأويل قصة قرابين أبناء آدم[10] لقلنا بأن الفراغ القانوني الذي كانت تعرفة البشرية حينئذ هو ما دفعهم إلى فكرة القربان، مادام العرف قد فشل في حسم الصراع، والحيلولة دون وقوع صدام مؤكد بين الإبنين. فكان لابد حسب الرواية الدينية من تدخل الإله لحسم الصراع، فما الخلاصة التي نستشفها من كل ذلك؟
حيث يعجز الإنسان عن مواجهة مشاكل الحياة، وحيث يعجز عن المواجهة، فإنه يلجأ إلى الغيبيات ظنّا منه أنها الكفيلة بتحقيق خلاصه. هنا يبدو سبينوزا ثوريا، فهو لا يكشف عن الأصول العاطفية للمعجزة، فحسب، بل إن عبقريته تكشف عن الأسباب العاطفية التي تدفع الإنسان إلى التدين، وهنا يبدو سبينوزا سباقا إلى اكتشاف أسباب ظهور الأديان، كما أنه يمزج الفلسفة بالتحليل النفسي. وقد نجازف بالقول بأن فيلسوف الإيتيقا هو المؤسس الحقيقي “لعلم نفس الأديان”
إن تجاوز الخرافة، إنما يكون عبر الإيمان بالعلم، والاعتقاد بأن الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة، غير أن مثل هذه المسلمة إنما تفترض بدورها التخلي عن التصور التقليدي للإله، والإيمان بتصور سبينوزا الذي يعتبر الإله والجوهر والطبيعة شيئا واحدا -كما سبق أن أشرنا- فالجوهر يشمل كل ما هو موجود، وكل ما سيوجد، وكل ما وجد. إنه الكائن الذي يمتلك فاعلية مطلقة في ذاته، لكنه ليس مفارقا للطبيعة. فإذا كان الجوهر هو العلة المفسرة لوجود جميع الأشياء، فإننا لا نعدو أن نكون أحوالا له. ومن ثمة، فإننا نشارك في فيه من حيث كوننا جزءا منه.
إن اعتقادا مثل هذا لا يحسم مع الخرافة فحسب، بل إن سبينوزا من خلال هذا التصور يعلن التمرد على فكرة العناية الإلهية كما فهمتها الأديان التاريخية. فاعتقاد البشر، بتعالي الإله، يجعلهم يعتقدون أنه “سخر” لهم الطبيعة، لطاعتهم، وأن يتدخل لإحقاق الحق والعدالة كلما حاول الشر السيادة في العالم. وهذه الفكرة بقدر ما تبدو فكرة “جميلة” تبعث على الطمأنينة داخل نفوس العامة، فإنها في المقابل تثير بعض المشاكل: فإذا كانت هناك عناية إلهية فلماذا لم تحل هذه العناية دون وقوع حروب راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء؟ بل وكيف تكون هناك عناية إلهية والأديان تتحدث عن أن الإله يبعث بين الفينة والأخرى عقابا للمتمردين عن الشريعة، وهو العقاب الذي لا يستثني الشجر ولا الحجر؟
لعل مثل هذه المشاكل التي تطرحها “نظرية التعالي” هي التي جعلت فولتير يثور على مفهوم العناية الإلهية بسبب زلزال لشبونة[11]. فقد كان فولتير على يقين تام، من أن فكرة العناية هي أضعف من أن تصمد أمام الواقع الذي يكذبها.
3- من التيولوجيا إلى الإيتولوجيا: كيف نظر سبينوزا إلى العالم؟
إذا كانت التيولوجيا قد صاغت أطروحتها على أساس أن هناك ماهيات مفارقة ومتعالية عن العالم، ومن ثمة قادها ذلك، إلى اشتقاق قيم أخلاقية قائمة على ثنائية الخير والشر، فإن سبينوزا على النقيض من ذلك، نظر إلى العالم ليس من زاوية التيولوجيا، والتي كان يوجه لها نقدا قاسيا ممثلة في الكتاب المقدس، وكذا تفسيرات موسى ابن ميمون[12] بل نظر إلى العالم من زاوية الإيتولوجيا.
تعرف الإيتولوجيا بأنها العلم الذي يدرس كيفيات الوجود، واشكال تحقق الموجودات، بما لها من قدرات كالقوة والحركة، فضلا عن علاقات التأثير والتأثر القائمة بينها. إذا نحن نظرنا إلى العالم من هذه الزاوية، حسب سبينوزا، فليس هناك من مبرر يدعو إلى الاعتقاد بأن هناك ماهيات تتعالى عن العالم. وهذا التصور له انعكاساته على طبعا على نظرية سبينوزا في الإيتيقا كما سنرى.
إن الطبيعة والجوهر لهما نفس المعنى، إنهما العلة المطلقة التي تتحرك دائما، وفق قوانين أبدية. وهذا الجوهر، يدرك عن طريق تعبيراته التي هي مجموع الصفات المشكلة له. فالجوهر إذن يعبر عن نفسه بعدة طرق وأشكال. لذلك، يرفض سبينوزا فكرة التعالي التقليدية، التي يقدمها التيولوجيون. فإذا كانت الطبيعة الطابعة هي الجوهر من حيث هو مجموعة من الصفات، فإن الطبيعة المطبوعة هي مجموع الأحوال. وهذا لا يعني أن هناك انقساما على مستوى ماهية الجوهر، بل العكس تماما. فالجوهر، لا يختلف في ذاته، ولكن تعبيراته هي التي تختلف؛ أي الأشكال التي يكشف بها عن نفسه.
إن الجوهر من منظور سبينوزا يمثل علة فريدة. هذا التعريف لا يختلف فيه ديكارت عن سبينوزا، فديكارت يعتقد أن الإله يمثل علة فريدة، هي التي تمنح للأشياء الحركة، بشكل دائم. لكن رغم ذلك، فإن هذه العلة مفارقة للأشياء وليست محايثة. ومعنى ذلك، أن الجوهر “يخلق” الأشياء لكن من خارج ذاته. هذه هي المعضلة التي سيعترض عليها سبينوزا؛ لأنها تفضي لتصور مغلوط حول علاقة النفس بالجسد. لذلك كان لابد من تصحيح نظرية ديكارت؛ ذلك أن الجوهر لا يخلق شيئا من خارج ذاته، ففي نهاية المطاف هو علة محايثة “لا متعدية، للأشياء جميعا[13]” والعلة المحايثة التي هي الجوهر لا تنتج معلولات مفارقة عنها. ورغم أن هذه الفكرة تبدو غامضة إلى حد ما، فإن سبينوزا أراد من خلالها أن يثبت بأنه داخل الواحد يكمن الكل، أو بعبارة أخرى، من داخل الوحدة يصدر التعدد.
لقد كان ديكارت يعتقد، أن الذات الإلهية منزهة عن الامتداد؛ ذلك لأن الامتداد يوجد في حالة عطالة، وأن الإله هو من يمنحه القدرة على الحركة. وهذه فكرة تبدو للوهلة الأولى منطقية، فمادام ديكارت قد انطلق من فكرة التعالي، فلابد أن تكون الحركة مجرد نتاج، أو تعبير عن فعل الإله وقدرته؛ ذلك أن اعتقادا مثل هذا يقود إلى تراتبية على مستوى الماهيات، حيث تصبح هناك جواهر أرقى في مقابل ماهيات أدنى (النفس في مقابل الجسد مثلا)
وقد كان سبينوزا يعلم أن مثل هذا التصور يقود إلى ارتباك في الفهم، ومن ثمة وجب تصحيحه؛ لأن القول بتعالي ماهية ما عن غيرها سيسقطنا في التراتبية، ومن ثمة القول بأن بعض الكائنات قيمة على الأخرى من حيث الطبيعة، وهو ما يرفضه سبينوزا رفضا مطلقا.
إن الامتداد لا يوجد منفصلا عن الجوهر، فالامتداد هو صفة من صفات الجوهر مثلة مثل الفكر، وأما أجسامنا نحن البشر، فليست سوى أحوال للامتداد، أو بعبارة أخرى. إننا مجرد تعبيرات لهذه الصفة اللامتناهية والمطلقة. صحيح أن الجوهر يتألف من عدد لا عصر له من الصفات، لكننا نعرف -كبشر- صفتين أساسيتين هما الفكر والامتداد، لكونها الصفتان المشكلان لذواتنا.
إلى حدود هذه اللحظة تبدو نظرية سبينوزا، أكثر اتساقا ومنطقية من نظرية ديكارت، فإذا كان ديكارت قد وجد صعوبة في تفسير التفاعل الحاصل بين النفس والجسد، باعتبارهما جوهرين متميزين من حيث الطبيعة. مع سبينوزا من الممكن تفسير ذلك، حيث إن الفكر والامتداد، هما ترجمان لنفس الجوهر، أو قل هما تعبيرين مختلفين لنفس الشيء.
4- نظرية سبينوزا حول الجوهر ومشكلة النفس والجسد:
لاشك أن التصور الذي يتباه سبينوزا للجوهر، ينعكس على فهمه للنفس والجسد، فإذا كان التمييز الذي وضعه ديكارت للنفس والجسد، قد أفضى لإعطاء الأسبقية للنفس، باعتبارها جوهرا بسيطا، فإن سبينوزا سيرفض تصور ديكارت جملة وتفصيلا؛ إذ إن سبينوزا يعتقد أن للجسد قيمة تماما مثل النفس، ومن ثمة، بدل التعامل مع الإنسان من منظور أخلاقي- مثالي وهو المنظور الذي يعتبر مصدرا لأحاكم القيمة- يجب التعامل مع الإنسان من منظور مادي- علمي. يجب دراسة الإنسان برغباته وأهوائه وانفعالاته بعيدا عن الإسقاطات الأخلاقية.
إذا نظرنا للإنسان من زاوية علمية، سنجد، بأنه مدفوع برغبة الحفاظ على البقاء، وهو يبذل قصارى جهده من أجل تحقيق هذه الغاية، وهذا الجهد هو Conatus. كما أن النفس ترتبط بالجسد، تتأثر به وتؤثر فيه، تفعل فيه، وتنفعل به من حيث إنهما أحوال لذات الجوهر.
وإذا نظرنا إلى الإنسان من زاوية أنه حال من أحوال الجوهر، سنجد أنه لا يتمتع بأية بقيمة أخلاقية عن غيره من الكائنات الأخرى، فكل ما يوجد لا يوجد إنما يوجد في الجوهر. لذلك، فإذا كانت نظرية ديكارت تعطي الأسبقية للإنسان، والحق في السيطرة على غيره من الكائنات -مادام هناك أسمى وأدنى- فإن نظرية سبينوزا تعتبر أن الموجودات تشكل كلا. لذلك، فتصور سبينوزا هذا يعتبر بمثابة تأسيس نظري لفلسفة البيئة، التي ترفض المس بكل أشكال الحياة والكائنات.
5- سبينوزا والثورة الإيتيقية:
لو نظرنا إلى تصورات العامة من الناس إلى الأخلاق، لوجدنا أنها مبنية على ثنائية الخير والشر، والحق أن هذه التصورات استمدتها العامة تارة من الأديان التاريخية وتارة أخرى من النظريات الفلسفية. يكفي هنا أن نشير إلى الديانة المسيحية التي تعتبر العطف والرحمة والحب والتسامح قيما خيرة، بينما ترى العنف والحرب قميا شريرة، وهو نفس التصور الذي كان يدافع عليه أفلاطون، ولو أنه حاول أن ينسج استدلالات عقلية على ذلك، باستعارة شخصية سقراط التي كانت تدافع عن الفضيلة والتقوى والعدالة.[14]
يرفض سبينوزا كل هذه التصورات؛ فالمبدأ الذي ينص على الإيثار مثلا (تفضيل مصلحة الغير على مصلحة الذات) قد يلحق الأذى بالإنسان. وإذا كان الإيثار خيرا بالنسبة إلى هذا، فلن يكون كذلك بالنسبة إلى شخص آخر. فالقيم الأخلاقية تعتبر نسبية؛ بمعنى أن ما يعتبر خيرا بالنسبة إلى شخص ما لن يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، فالناس يختلفون في نظرتهم للخير والشر، بمقدار ما يسببانه لهما من منفعة أو ضرر، من لذة أو ألم. لذلك وإذا كان هذا التصور الأخلاقي الذي يقوم على نسبية الخير والشر نسبيا، فلابد من صياغة نظرية إيتيقية توحد البشرية جمعاء، نظرية شاملة تنطلق من قوانين عامة. فكما أن الطبيعة تخضع لقوانين ثابتة، فكذلك البشرية تخضع لنفس القوانين فيما يتعلق بالجانب الإيتيقي.
إن الغاية الأساسية للإيتيقا هي “وجود السرور وارتفاع الألم[15]”؛ بمعنى أن طلب السرور وتجنب الألم شيء غريزي في الإنسان. فالسرور ليس سوى اقتراب النفس من درجة الكمال. أما الألم، فهو نقيض ذلك. فالكمال إذن يكمن في القوة، لكن ليس بالمعنى النيتشوي. إن القوة التي يقصدها سبينوزا هي قوة العقل والتفكير. فالسعادة بالنسبة إلى سبينوزا لا تحصل كنتيجة للغرائز، وإنما هي حصيلة المعرفة الواضحة التي لا لبس فيها. إنها نوع من الأنانية، لكن ليس الأنانية المفرطة، إنها الأنانية التي تنتهي بحفظ البقاء. دون تعريض الذات لما يهدد وجودها. فلا خير في التضحية إذا كانت ستقضي على الذات، وتنهي وجودها. فمادامت الغاية الأساسية للإنسان هي الحفاظ على البقاء، فيجب التصرف وفق هذه القاعدة، لكن دون تهديد حق الآخر في البقاء. وحتى لو افترضنا بأن الآخر يعمل على نشر البغضاء، وينشر الكراهية، فإن ذلك من منظور سبينوزا لا ينقص من قيمة الإنسان، بل إنه يعبر عن شعور صاحب الكراهية بالانحطاط عند مقارنة نفسه بمن هو “أفضل منه”.
هكذا، فالسعادة الحقيقية، هي سعادة تنتج عن المعرفة والتحرر من الغرائز والعواطف السلبية التي تدفع الإنسان إلى كراهية الآخر تارة، والتفكير في الانتقام منه تارة أخرى. إنها سعادة تنتج عن إدراك التكامل بين مكونات الوجود، والقوانين الفيزيائية التي تحكم العالم.
خلاصة:
لقد أدى تصور سبينوزا للجوهر إلى ثورة في المجال الديني والأخلاقي. إنها الثورة التي أرست دعائم الحداثة الغربية، وقضت على التقليد الديني والأخلاقي. لذلك لا عجب أن يرفض سبينوزا تصورات ديكارت الغامضة التي أفضت إلى اضطراب على مستوى فهم علاقة النفس والجسد. ليس هذا فحسب، بل رفض سبينوزا القيم الأخلاقية القائمة على الخير والشر. لذلك ليس من الغريب في شيء أن يعنون سبينوزا كتابه “بالإيتيقا” ويتحاشى استعمال مفهوم الأخلاق؛ وذلك لأن الإيتيقا هي قيم الإنسان الرامية إلى الحياة وتحقيق السعادة، وليس التضحية بالذات ووجودها كما يرى أنصار الأخلاق التقليدية والعدميون الذين لا يؤمنون بوجود سعادة من الأساس.
لقد استحق سبينوزا وصف أمير الفلاسفة، وكانت حياته ترجمان لفلسفته، فعلى الرغم من أن الرجل عانى من المتعصبين الذين كانوا يترصدونه، وعلى الرغم من كل ما تعرض له من نفي، ومقاطعة، ولعن وشتم، انتهت بمحاولة الاغتيال سنة 1656، إلا أن الفيلسوف ظل صامدا الطود العظيم؛ لأنه كان يعلم أن لا أحد سيشوش عليه لذته الفلسفية، وسعاته التي كان يراها في الاتزان والاعتدال وتجنب العواطف السلبية بكافة مظاهرها.
المصادر المعتمدة:
– Baruch spinoza , court traité de dieu, et de la santé de son âme, trad par Charles appuhn.univ.Grenoble
– Baruch spinoza, L’éthique trad par Saisset, numérisée par David Bosman 2002
– الدكتور أحمد العلمي: سبينوزا في الفلسفة والسياسة والأيتيقا، عن دار أفريقيا الشرق.
– سبينوزا، باروخ، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، تشرين الأول 2009
– سبينوزا، باروخ، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2005
– مقال الأستاذ سعيد ناشيد، مأساة لشبونة بين فولتير وروسو، الأوان، 18 يوليوز 2020
– نجيب زكي محفوظ، فلسفة سبينوزا، مجلة حكمة، تاريخ النشر 2015
[1] – باحث مغربي.
[2] – انظر محاضرة الأستاذ فيرديناند ألكيي، الطبيعة والحقيقة في فلسفة سبينوزا، ترجمة الأستاذ أحمد العلمي
3 يمكن من أجل التوسع في هذه الفكرة الرجوع لكتاب الدكتور أحمد العلمي: سبينوزا في الفلسفة والسياسة والأيتيقا، عن دار أفريقيا الشرق
[4] سبينوزا، باروخ، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، تشرين الأول 2009 ص31
[5] وصف يستعمله الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي يعتبر من أكبر شراح سبينوزا في العالم.
[6] Baruch spinoza , court traité de dieu, et de la santé de son âme, trad par Charles appuhn.univ.Grenoble p6
[7] Baruch spinoza, L’éthique trad par Saisset, numérisée par David Bosman 2002 p11
[8] سبينوزا، باروخ، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2005 ص 213
[9] حينما يتحدث العهد القديم، عن أهمية التوحيد، لموسى فإنه ينسب الغيرة ليهوه، إله اليهود، لكونه لا يتحمل وجود شريك له.
[10] هذه القصة مذكورة في الأديان التاريخية، وهي تتحدث عن اقتتال أبناء آدم، حيث قضى قابيل على هابيل من بعد ما تقبل قربان هذا الأخير.
[11] للتعمق في هذا الموضوع، يمكن الرجوع مقال الأستاذ سعيد ناشيد، مأساة لشبونة بين فولتير وروسو، الأوان، 18 يوليوز 2020
[13] سبيوزا، باروخ، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، ص 54، مصدر سبق ذكره.
[14] يمكنك التعمق في هذه الفكرة بالرجوع إلى محاورات: أقريطون، أوطيفرون التي تمثل دفاعا عن العدالة والفضيلة من منظور سقراط.
[15] نجيب زكي محفوظ، فلسفة سبينوزا، مجلة حكمة، تاريخ النشر 2015