من الحقائق التي ينبغي التسليم بها أن المسلمين إنما تنبهوا لفكرة حقوق الإنسان في العصر الحديث من الأوروبيين الذين اعتنوا بهذه الفكرة، ورفعوا من شأنها، ولفتوا انتباه العالم إليها، وجعلوها من الأفكار المعتبرة في القرن العشرين.
وهذا لا يعني بالتأكيد أن عناصر هذه الفكرة ومكوناتها وحقلها الدلالي لم يكن موجوداً أو متجلياً في الإسلام والثقافة الإسلامية، ولا حتى ضعيفاً أو ضحلاً، وهذا لا يمكن أن يبوح به أحد، أو يقبل من أحد على الإطلاق كائنا من كان.
والتسليم بهذه الحقيقة لا يعني الإعلاء من شأن الموقف الأوروبي، أو الاستنقاص من شأن الموقف الإسلامي، ولا ينبغي أن يأخذنا الحرج أو الضيق أو التحسس حين الإشارة إلى هذا الأمر، فهذا هو واقع الحال الذي لا ضير ولا ضرار في الإقرار والاعتراف به، ويكفي للدلالة على ذلك أن الحكمة في منطق الإسلام هي ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، حتى لو وجدها عند الكفار والمشركين وغيرهم.
ويذكرنا هذا الأمر بكامل صورته بالموقف البليغ الذي نقله الشيخ محمد رشيد رضا واشتهر عنه كثيراً، في رده على قارئ بعث برسالة إلى مجلة المنار، يتساءل فيها لماذا لا نسمي الحكم الدستوري حكم الشورى؟ فأجابه رشيد رضا سنة 1907م بقوله: (لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم ـ المقيد بالشورى ـ هو أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس، لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام.. إنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك.. ومع هذا كله أقول إننا لولا اختلاطنا بالأوروبيين لما تنبهنا من حيث نحن أمة، أو أمم إلى هذا الأمر العظيم، وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الكريم).
ما أردت قوله هو ما قاله تماماً رشيد رضا في شأن الحكم المقيد بالشورى الذي تنبه إليه المسلمون من الاعتبار بحال الأوربيين، كذلك الحال في شأن فكرة حقوق الإنسان التي تنبه إليها المسلمون في القرن العشرين من الاعتبار بحال الأوروبيين، خصوصاً بعد تحويل هذه الفكرة وتقنينها في إعلانات وعهود ومواثيق ظلوا يعلنون عنها من وقت لآخر، ويعرفون بها، منذ الإعلان الذي تمخضت عنه الثورة الفرنسية وعرف بإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في أغسطس 1789م، وصولاً إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1948م، وما تلاه من إعلانات ومواثيق أخرى، إما أنها صدرت من الأوروبيين أو إنهم وقفوا وراءها، وكانوا الدافعين لها.
وما يوثق ويبرهن حقيقة أن المسلمين إنما تنبهوا لهذه الفكرة من الأوروبيين، أن معظم الكتابات الإسلامية التي عالجت وتطرقت لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام، غالباً ما تبدأ بالإشارة إلى تلك الإعلانات والعهود الأوروبية، وتتخذ منها مدخلاً ومنطلقاً، وتظل تحوم حولها، وترجع إليها، وتذكر بها، بطريقة توحي وتؤكد بأن تلك الإعلانات والعهود هي المنبه والمذكر بهذا الموضوع، ومن الاقتراب منه، ولولاها لما حصل التنبه لهذه الفكرة بهذا المسمى (حقوق الإنسان)، ولجرى الحديث عنها في إطار عناوين أخرى، وفي نطاق سياقات مغايرة، ولحاجات ومقتضيات مختلفة1.
الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 12 نوفمبر 2009م، العدد 15783.