أهل الخبرة بالمفهوم الذي نختاره في تفسير الأعلمية هم: العُلماء والفُضلاء الذين يمتلكون دراية شمولية ونظرة تصديقية لعموم المعارف الدينية؛ أما مَن تقتصر نظرتهم ومعرفتهم على جانب واحد من المعارف، فلا يحقّ لهم إبداء رأي في هذا المجال؛ وفي هذا الضوء يتضح ما يلي: ليس من صلاحية أهل الخبرة بالمفهوم المتعارف للأعلمية ـ والتي تعني الأعلمية في الفقه أو الأصول أو كليهما كما هو مُحرّر في محله ـ أن يشيروا إلى أعلمية الشخص بالمفهوم الذي نختاره في تفسير الأعلمية ونشترطه في مرجع التقليد ـ والذي يعني الأعلمية في جميع المعارف الدينية، لا خصوص مسائل الحلال والحرام ـ ، فهم ليسوا بأهل خبرة ودراية بهذا المعنى الواسع والشمولي للأعلمية، فيكونوا بالاصطلاح المنطقي أخصّ مطلقاً إن لم نقل بتباينهم
نحن نرى أن تقليد الميت مما لا إشكال فيه ابتداءً أو بقاءً شريطة ثبوت أعلميته، ونقصد بالأعلمية: الأعم مِن أعلمية الأحكام، بل هي القُدرة على الاستنباط في عموم المعارف الدينية، ومتى ما ثبتت أعلمية شخص لدى المكلف، حياً كان أو ميتاً، وجب تقليده والرجوع إلى الأعلم الحي في المستحدثات والاحتياطات والأمور المالية. نعم، هذا متصور فيمن يكون معاصراً أو مقارباً لعصرنا.
هناك أسس مشتركة في عملية الاجتهاد الديني لا بد من توفر المجتهد عليها، ومن غير الممكن أن يكون المجتهد مجتهداً دون إطلاعه على عموم المعارف الدينية. نعم، قد يكون الشخص أكثر إطلاعاً في تفاصيل البحث الفقهي ومسائله أو في تفاصيل البحث العقائدي وتشعباته، لكن هذا لا يعني إلمامه ومعرفته بأسس الاجتهاد الديني. وعلى هذا الأساس؛ فإذا وِجد مَن هو أكثر اطلاعاً على المسائل الفقهية أو العقدية مع الحفاظ على انسجام فتاواه مع تلك الأسس الاجتهادية الدينية، جاز التبعيض في ذلك.
يجب على المكلّف أن يقلّد الأعلم، والأقدر، والأكفأ، وهي مفاهيم يكفي مجرد تصوّرها بشكل سليم في التصديق بضرورة اشتراطها في المرجع المراد تقليده. ونعني بالأعلم: الأمكن على الاستنباط في جميع المعارف الدينية، لا خصوص مسائل الحلال والحرام؛ فإن المستظهر من الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)؛ هو ضرورة أن يكون المتفقه قادراً على الاستنباط في جميع المعارف الدينية، العقائدية منها والعملية، الأصول منها والفروع، لا خصوص الأحكام العملية المصطلح عليها في الحوزات العلمية بـ (الفقه)، وهذا هو المجتهد المطلق الذي يجوز تقليده. ونعني بالأقدر: من يكون له القدرة على إدارة شؤون مقلديه وإجابة أسئلتهم واستيضاحاتهم، ومتابعة شؤونهم وأحوالهم في جميع الشروط والظروف؛ فإن ذلك هو الذي يحقّق مصداق المأثور عن الأئمة الأطهار عليهم السلام: (علماء أمتي مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته يمنعونهم من الدخول إلى ضعفاء شيعتنا)؛ فإن المرابطة لن تتحقّق دون أن يكون لمرجع التقليد (قدرة علمية) و(حضور عملي) يستطيع من خلالهما الحفاظ على ثغور المذهب والعقيدة والدين، وهذا لن يحصل إلا بعد توفر عنصر الشمولية في منظومة المعارف الدينية في شخصه، وهذا ما أشرنا إليه في الشرط السابق. ونعني بالأكفأ: من يكون له شجاعة وشهامة تمكّنه من اتخاذ المواقف الحازمة في المواطن التي تستدعي ذلك، دون تردّد. وفي هذا الضوء: إذا حصل للمكلف اطمئنان بتوفر الشروط التي ذكرناها في مرجع التقليد وجب تقليده أو العدول إليه.