السؤال :
ما هي الحكمة من وجوب العدّة للنساء في الطلاق؟ فهل هي لاستبراء الرحم؟ ففي هذا الزمان لا حاجة إلى العدّة مع توفر الأجهزة الطبية المتطورة، أم أن وجوب العدّة حكم تعبدي؟
الجواب :

يختلف وجوب العدّة في الطلاق باختلاف الموارد، ففي الطلاق البائن، المستظهر لدينا من مجموع الأدلة أن وجوب العدّة لأجل الاستبراء والاستبيان من نقاء الرحم وخلّوه من الحمل، ولذا قلنا: عدم لزوم العدة في الطلاق البائن مطلقاً؛ لإمكانية إحراز الاستبراء والاستبيان من خلال الفحوصات الطبية المتقدمة من السونار وغيره من الأشعات والتحاليل التي توجب الاطمئنان بخلو الرحم ونقاءه. وأما العدة في الطلاق الرجعي، فالمستظهر لدينا من أدلتها ليس الاستبراء والاستبيان، ذلك أن المطلقة رجعياً بحكم الزوجة، وإنما أوجب الشارع العدّة  لمنح فرصة للزوجين لاحتمالية إعادة العلاقة بينهما وترميمها، قال تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} الطلاق :1. فقد يتساءل البعض عن الحكمة التي تقف وراء إبقاء المطلقة رجعياً في بيت زوجها، ولا يسمح لها بالخروج من البيت إلا بإذنه، مع جواز التجمّل والتزيّن له؟ أليس من الغريب بعد أن توصل الزوجان في علاقتهما الزوجية إلى طريق شبه مسدود أن لا يأمرها القرآن بالانتقال إلى مكان آخر  ومفارقة زوجها كالمطلقة بائناً، خصوصاً أن التوجه العرفي يقتضي ذلك أيضاً؟ والجواب يأتيك من القرآن الكريم نفسه، فقد أعرب القرآن عن اهتمامه وحرصه بحفظ كيان الأسرة ولمّ شملها ورأب الصدع بين أفرادها، وشدد النكير بحق من يتسامح ويتساهل في هدم الأسرة، ولا يتوقف الشارع في المسارعة إلى ترميم العلاقة بين الزوجين، فيضع من القيود ما يكاد تكون انفصال العلقة الزوجية مستحيلاً أو تعجيزياً، بينما يقف متساهلاً في وضع الشروط إذا كان الأمر مرتبطاً ببناء وتكوين الأسرة، فلا يشترط أكثر من حصول التراضي بين الزوجين وإجراء الصيغة مع تحديد المهر، دون اعتبار الإشهاد والإشهار  وسائر الشرائط المعتبرة في الطلاق؛ لأن عملية الطلاق عملية تهدف إلى هدم الأسرة، وعملية الزواج عملية تهدف إلى بناء مجتمع صالح، وكل ما كان من شأنه هدم الأسرة يقف القرآن معترضاً للحؤول دون وقوعه. ومن هنا يمكن استيحاء الملاك من إبقاء الزوجة في بيت زوجها في الطلاق الرجعي والتزامها بالعدة من خلال الآية القرآنية: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}. الطلاق :1. فإن بقاء الزوجة في البيت متجمّلة لزوجها مدّة العدّة، قد يُذيب الخلاف بمرور الأيام، فتهدأ النفوس بعد غليانها، ويتناسى الخلاف بعد حلول السكون، وتتلاشى الانفعالات المتباينة، وتتناهى الساعات الشيطانية التي أدت إلى نشوب الخلاف وسوء التفاهم، فيأخذ العقل دوره لإعادة النظر في أسباب الخلاف، وما يؤول إليه مستقبل الأسرة والأولاد والمنزلق الخطير الذي وضعا فيه الزوجين أفراد الأسرة من الناحية التربوية والأخلاقية والاجتماعية والعاطفية، فتبدأ عملية ترميم الأخطاء الماضية في ظل البقاء في بيت تلوح فيه ذكريات طيبة، فيشعر الزوجان أن الخلاف لم يبلغ أوجه، ولا زال هناك متسع من الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، من خلال تجميد عملية الطلاق وتفعيل الحياة الزوجية السابقة خصوصاً في أجواء ابتعدت عن وضع العثرات والعقبات أمام إعادة الحياة الزوجية. مضافاً إلى أن اقتراب الأجساد يفسح المجال أمام أجواء عاطفية، لتطبيع العلاقات الودية، وهو الأمر الآخر الذي يسهم في إثارة الرغبة عند الرجل في مراجعة زوجته قولاً وعملاً، فينتهي الأمر إلى الوفاق بينهما. وهذا يكشف عن وجود تناغم بين الأحكام الشرعية والفطرة البشرية، وأنها جاءت منسجمة مع خبايا النفس الإنسانية وكوامن التأثير فيه. ويدعم هذا الاستيحاء طبيعة الفطرة البشرية والدوافع الغريزية التي جبل عليها الإنسان تجاه الجنس الآخر.